للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصيفة، مع كل وصيفة جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ مَمْلُوءٌ مِسْكًا. فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ: إِنْ كَانَ مَا بَعَثْتَهُ ثَمَنًا عَنْ ظَنِّنَا فِيكَ فَظَنُّنَا فِيكَ أَكْثَرُ مِمَّا بَعَثْتَ، وَقَدْ بَخَسْتَنَا فِي الثَّمَنِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ زيادة المودة فقد اتهمتنى في المودة. وردت ذلك عَلَيْهِ. وَقَدِ اشْتَرَتِ الدَّارَ الْمَشْهُورَةَ بِهَا بِمَكَّةَ الْمَعْرُوفَةَ بِدَارِ الْخَيْزُرَانِ، فَزَادَتْهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وَكَانَ مُغَلُّ ضِيَاعِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا. وَاتَّفَقَ مَوْتُهَا بِبَغْدَادَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هذه السنة. وخرج ابْنُهَا الرَّشِيدُ فِي جِنَازَتِهَا وَهُوَ حَامِلٌ سَرِيرَهَا يَخُبُّ فِي الطِّينِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمَقْبَرَةِ أُتِيَ بِمَاءٍ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفًّا وَصَلَّى عليها، ونزل لَحْدِهَا. فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ أُتِيَ بِسَرِيرٍ فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَاسْتَدْعَى بِالْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ فَوَلَّاهُ الخاتم والنفقات. وأنشد الرشيد قول ابن نُوَيْرَةَ حِينَ دَفَنَ أُمَّهُ الْخَيْزُرَانَ:

وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ بُرْهَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قيل له يَتَصَدَّعَا

فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نبت ليلة معا

[وفيها توفيت:]

[غادر]

جارية كانت لموسى الهادي، كان يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا جِدًّا، وَكَانَتْ تُحْسِنُ الْغِنَاءَ جدا، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُغَنِّيهِ إِذْ أَخَذَتْهُ فِكْرَةٌ غَيَّبَتْهُ عَنْهَا وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَسَأَلَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟

فَقَالَ: أَخَذَتْنِي فكرة أنى أموت وأخى هَارُونَ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ بَعْدِي وَيَتَزَوَّجُ جَارِيَتِي هَذِهِ. ففدّاه الحاضرون ودعوا له بطول العمر. ثم استدعى أخاه هارون فأخبره بما وقع فَعَوَّذَهُ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْتَحْلَفَهُ الْهَادِي بِالْأَيْمَانِ المغلظة من الطلاق والعتاقو وَالْحَجِّ مَاشِيًا حَافِيًا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا، فَحَلَفَ له واستحلف الجارية كذلك فَحَلَفَتْ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَقَلُّ مِنْ شهرين حتى مات، ثم خطبها الرشيد فقالت: كيف بالايمان التي حلفناها أنا وأنت؟ فقال: إني أكفر عنى وعنك. فتزوجها وحظيت عنده جِدًّا، حَتَّى كَانَتْ تَنَامُ فِي حِجْرِهِ فَلَا يتحرك خشية أن يزعجها. فبينما هي ذات ليلة نائمة إِذِ انْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَأَيْتُ الْهَادِي فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ:

أَخْلَفْتِ عَهْدِي بَعْدَ مَا ... جَاوَرْتُ سُكَّانَ الْمَقَابِرْ

وَنَسِيتِنِي وَحَنَثْتِ فِي ... أَيْمَانِكَ الْكُذُبِ الْفَوَاجِرْ

وَنَكَحْتِ غَادِرَةً أَخِي ... صَدَقَ الَّذِي سَمَّاكِ غَادِرْ

أَمْسَيْتُ فِي أَهْلِ البلى ... وعددت في الموتى الغوابر

لَا يَهْنِكِ الْإِلْفُ الْجَدِي ... دُ وَلَا تَدُرْ عَنْكِ الدَّوَائِرْ

وَلَحِقْتِ بِي قَبْلَ الصَّبَا ... حِ وَصِرْتِ حَيْثُ غَدَوْتُ صَائِرْ

<<  <  ج: ص:  >  >>