للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن تمامة بْنِ أَشْرَسَ قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً مَعَ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَانْتَبَهَ مِنْ مَنَامِهِ يَبْكِي مَذْعُورًا فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ شَيْخًا جَاءَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ هَذَا الْبَابِ وَقَالَ:

كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ

قَالَ فَأَجَبْتُهُ:

بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي والجدود العواثر

قال ثمامة: فلما كانت الليلة القابلة قَتَلَهُ الرَّشِيدُ وَنَصَبَ رَأَّسَهُ عَلَى الْجِسْرِ ثُمَّ خرج الرشيد فنظر إِلَيْهِ فَتَأَمَّلَهُ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

تَقَاضَاكَ دَهْرُكَ مَا أَسْلَفَا ... وَكَدَّرَ عَيْشَكَ بَعْدَ الصَّفَا

فَلَا تَعْجَبَنَّ فَإِنَّ الزَّمَانَ ... رَهِينٌ بِتَفْرِيقِ مَا أَلَّفَا

قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى جَعْفَرٍ وَقُلْتُ: أَمَا لَئِنْ أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم والجود غاية، قال: فنظر إليّ كأنه جمل صؤول ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: -

مَا يُعْجِبُ الْعَالَمَ مِنْ جَعْفَرٍ ... مَا عَايَنُوهُ فَبِنَا كَانَا

مَنْ جَعْفَرٌ أَوْ مَنْ أَبُوهُ وَمَنْ ... كَانَتْ بَنُو بَرْمَكٍ لَوْلَانَا

ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَ فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ [١] .

وَقَدْ كان مقتل جعفر لَيْلَةِ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ومكث وزيرا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَدْ دَخَلَتْ عُبَادَةُ أُمُّ جَعْفَرٍ عَلَى أُنَاسٍ فِي يَوْمِ عِيدِ أَضْحَى تستمنحهم جلد كبش تدفأ به، فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت: لقد أَصْبَحْتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ وَإِنَّ عَلَى رأسي أربعمائة وصيفة، وأقول إن ابني جعفرا عاق لي. وروى الخطيب البغدادي باسناده أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الرشيد جعفرا وما أحل بالبرامكة، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَالَ: اللَّهمّ إِنَّ جَعْفَرًا كَانَ قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة.

[حكاية غريبة]

ذكر ابن الجوزي في الْمُنْتَظَمِ أَنَّ الْمَأْمُونَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ إِلَى قُبُورِ الْبَرَامِكَةِ فَيَبْكِي عَلَيْهِمْ ويندبهم، فبعث من جاء بِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! مَا يَحْمِلُكَ عَلَى صَنِيعِكَ هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ أَسْدَوْا إليّ معروفا وخيرا كثيرا. فقال: وما الّذي أسدوه إليك؟ فقال: أَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة، فَزَالَتْ عَنِّي حَتَّى أَفْضَى بِي الْحَالُ إِلَى أن بعت داري، ثم لم يَبْقَ لِي شَيْءٌ، فَأَشَارَ بَعْضُ أَصْحَابِي عَلَيَّ بقصد البرامكة ببغداد، فأتيت أهلي وتحملت بعيالي، فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة


[١] الرواية في وفيات الأعيان ١/ ٣٣٩ والعقد الفريد ١/ ٢٢ وذكر أن صاحب الرواية هو يحيى بن خالد.

<<  <  ج: ص:  >  >>