للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى التضيق عليه، ثم إلى قتله، وَأَنَّهُ حُصِرَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حَتَّى احْتَاجَ إلى مصانعة هرثمة، وأنه ألقى في حراقة ثم ألقى منها فسبح إلى الشط الآخر فدخل دار بعض الْعَامَّةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالدَّهَشِ وَالْجُوعِ والعرى، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُلَقِّنُهُ الصَّبْرَ وَالِاسْتِغْفَارَ، فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ الطَّلَبُ وَرَاءَهُ مِنْ جِهَةِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، فدخلوا عليه وكان الباب ضيقا فتدافعوا عليه وَقَامَ إِلَيْهِمْ فَجَعَلَ يُدَافِعُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ بِمِخَدَّةٍ فِي يَدِهِ، فَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ حَتَّى عَرْقَبُوهُ وضربوا رأسه أو خاصرته بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ ذَبَحُوهُ وَأَخَذُوا رَأْسَهُ وَجُثَّتَهُ فَأَتَوْا بهما طاهرا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِنَصْبِ الرَّأْسِ فَوْقَ رُمْحٍ هُنَاكَ حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَوْقَ الرُّمْحِ عِنْدَ بَابِ الْأَنْبَارِ، وَكَثُرَ عَدَدُ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ طَاهِرٌ بِرَأْسِ الْأَمِينِ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مصعب، وبعث معه بالبردة والقضيب والنعل- وَكَانَ مِنْ خُوصٍ مُبَطَّنٍ- فَسَلَّمَهُ إِلَى ذِي الرئاستين، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى الْمَأْمُونِ عَلَى تُرْسٍ، فَلَمَّا رَآهُ سَجَدَ وَأَمَرَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَلْفِ ألف درهم. وقد قال ذو الرئاستين حِينَ قَدِمَ الرَّأْسُ يُؤَلِّبُ عَلَى طَاهِرٍ: أَمَرْنَاهُ بأن يأتى به أسيرا فأرسل به إلينا عقيرا. فقال المأمون:

مَضَى مَا مَضَى. وَكَتَبَ طَاهِرٌ إِلَى الْمَأْمُونِ كتابا ذكر فيه صورة ما وقع حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ.

وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ هَدَأَتِ الْفِتَنُ وَخَمَدَتِ الشُّرُورُ، وأمن الناس، وطابت النفس، ودخل طاهر بغداد يوم الْجُمُعَةَ وَخَطَبَهُمْ خُطْبَةً بَلِيغَةً ذَكَرَ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَمَرَهُمْ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ فَأَقَامَ بِهِ وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ زُبَيْدَةَ مِنْ قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ إِلَى قَصْرِ الْخُلْدِ، فَخَرَجَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ بِمُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيِ الْأَمِينِ إِلَى عَمِّهِمَا الْمَأْمُونِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ رَأْيًا سديدا. وقد وثب طائفة من الجند على طاهر بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَقْتَلِ الْأَمِينِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِذْ ذَاكَ مَالٌ، فَتَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا وَنَهَبُوا بَعْضَ مَتَاعِهِ وَنَادَوْا: يَا مُوسَى يَا مَنْصُورُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مُوسَى بن الأمين الملقب بالناطق هناك، وإذا هو قد سيّره إلى عمه. وَانْحَازَ طَاهِرٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ نَاحِيَةً وعزم على قتالهم بِمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ وَاعْتَذَرُوا وَنَدِمُوا، فَأَمَرَ لَهُمْ بِرِزْقِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ اقْتَرَضَهَا مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، فَطَابَتِ الْخَوَاطِرُ. ثم إن إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ قَدْ أَسِفَ عَلَى قَتْلِ محمد الأمين بن زُبَيْدَةَ وَرَثَاهُ بِأَبْيَاتٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَرَاثِيَ كَثِيرَةً لِلنَّاسِ فِي الْأَمِينِ، وَذَكَرَ مِنْ أَشْعَارِ الَّذِينَ هَجَوْهُ طَرَفًا، وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ حِينَ قَتَلَهُ قَوْلَهُ: -

مَلَكْتَ النَّاسَ قَسْرًا وَاقْتِدَارًا ... وَقَتَلْتَ الْجَبَابِرَةَ الْكِبَارَا

وَوَجَّهْتَ الْخِلَافَةَ نَحْوَ مَرْوَ ... إِلَى الْمَأْمُونِ تبتدر ابتدارا

<<  <  ج: ص:  >  >>