للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْغُرُوبِ ثُمَّ قَالَ لِي: كُنْ هَكَذَا لَا تَرُدَّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَدَّخِرْ عَنْهُ شيئا.

ولما جاءت المحنة في زَمَنَ الْمَأْمُونِ إِلَى دِمَشْقَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ عُيِّنَ فيها أحمد بن أبى الحواري وهشام ابن عَمَّارٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بن ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أَبِي الْحَوَارِيِّ فَحُبِسَ بِدَارِ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ هُدِّدَ فَأَجَابَ تَوْرِيَةً مُكْرَهًا، ثُمَّ أُطْلِقَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ قَامَ لَيْلَةً بِالثَّغْرِ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ١: ٥ حَتَّى أَصْبَحَ. وَقَدْ أَلْقَى كُتُبَهُ فِي الْبَحْرِ وَقَالَ: نِعْمَ الدَّلِيلُ كُنْتَ لِي عَلَى اللَّهِ وَإِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالدَّلِيلِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مُحَالٌ. وَمِنْ كَلَامِهِ لَا دَلِيلَ عَلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِآدَابِ الْخِدْمَةِ. وَقَالَ: مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا زَهِدَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ الْآخِرَةَ رَغِبَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ آثَرَ رِضَاهُ. وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ إِرَادَةٍ وَحُبٍّ لَهَا أَخْرَجَ اللَّهُ نُورَ الْيَقِينِ وَالزُّهْدَ مَنْ قَلْبِهِ. وَقَالَ: قلت لأبى سليمان في ابتداء أمرى: أوصني، فقال: أتستوص أَنْتَ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فقال: خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الأمارة بالسوء، وإياك أن تحقر إخوانك الْمُسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ طَاعَةَ اللَّهِ دِثَارًا، وَالْخَوْفَ مِنْهُ شعارا، والإخلاص له زادا، والصدق حسنة، وَاقْبَلْ مِنِّي هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا تُفَارِقْهَا ولا تغفل عنها:

مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ وأحواله وأفعاله، بلغه الله إِلَى مَقَامِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ فَجَعَلْتُ هذه الكلمات أمامى في كُلِّ وَقْتٍ أَذْكُرُهَا وَأُطَالِبُ نَفْسِي بِهَا. وَالصَّحِيحُ إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فاللَّه أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ

فِي شَوَّالٍ مِنْهَا كَانَ مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى الله على يد وَلَدِهِ الْمُنْتَصِرِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُعْتَزَّ الَّذِي هُوَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَخْطُبَ بِالنَّاسِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَأَدَّاهَا أَدَاءً عَظِيمًا بَلِيغًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْتَصِرِ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَحَنَقَ عَلَى أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فِي رَأْسِهِ وَصَفْعِهِ، وَصَرَّحَ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ، فَاشْتَدَّ أَيْضًا حَنَقُهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ. فَلَمَّا كَانَ يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف مِنْ عِلَّةٍ بِهِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى خِيَامٍ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ فِي مِثْلِهَا، فَنَزَلَ هُنَاكَ ثُمَّ اسْتَدْعَى فِي يَوْمِ ثَالِثِ شوال بند مائه عَلَى عَادَتِهِ فِي سَمَرِهِ وَحَضْرَتِهِ، وَشُرْبِهِ، ثُمَّ تَمَالَأَ وَلَدُهُ الْمُنْتَصِرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى الفتك به فدخلوا عليه لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، وَيُقَالُ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ عَلَى السِّمَاطِ فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّيُوفِ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ وَلَّوْا بَعْدَهُ ولده المنتصر.

[وهذه ترجمة المتوكل على الله]

جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم المتوكل أَمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>