للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم فِي أَسْوَإِ حَالٍ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ معهم، فحين حضروا عند دار الوزير سجنهم ومنعهم الماء، ثم صلبهم يَرَوْنَ صَفَاءَ الْمَاءِ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ منه، حتى ماتوا عطشا جزاء وفاقا، وقد أحسن في هذا الصنع اقتداء بحديث أنس فِي الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتُقِلُوا فِي بِلَادِ بَنِي خَفَاجَةَ مِنَ الْحُجَّاجِ فَجِيءَ بِهِمْ، وَقَدْ تَزَوَّجَتْ نِسَاؤُهُمْ وَقُسِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، فردوا إلى أهاليهم وأموالهم. قال ابن الجوزي: وفي رمضان منها انقضّ كوكب من المشرق إلى المغرب عليه ضوء عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَتَقَطَّعَ قِطَعًا وَبَقِيَ سَاعَةً طَوِيلَةً. قَالَ: وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَتْ زَوْجَةُ بَعْضِ رؤساء النصارى، فخرجت النوائح والصلبان معها جهارا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الْهَاشِمِيِّينَ فَضَرَبَهُ بَعْضُ غِلْمَانِ ذَلِكَ الرَّئِيسِ النَّصْرَانِيِّ بِدَبُّوسٍ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، فثار المسلمون بهم فانهزموا حتى لجئوا إِلَى كَنِيسَةٍ لَهُمْ هُنَاكَ، فَدَخَلَتِ الْعَامَّةُ إِلَيْهَا فَنَهَبُوا مَا فِيهَا، وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ دُورِ النَّصَارَى، وَتَتَبَّعُوا النَّصَارَى فِي الْبَلَدِ، وَقَصَدُوا الناصح وَابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَقَاتَلَهُمْ غِلْمَانُهُمْ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ، وَرَفَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمَصَاحِفَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَعُطِّلَتِ الجمع فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَاسْتَعَانُوا بِالْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَامْتَنَعَ، فَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ، وَقَوِيَتِ الْفِتْنَةُ جِدًّا وَنُهِبَتْ دور كثير مِنَ النَّصَارَى، ثُمَّ أُحْضِرَ ابْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَبَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَعُفِيَ عَنْهُ وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ. وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود إِلَى الْخَلِيفَةِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَرَدَ إِلَيْهِ رَسُولٌ من الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ فَبَصَقَ فِيهِ وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ، وَأَسْمَعَ رَسُولَهُ غَلِيظَ مَا يُقَالُ.

وَفِيهَا قُلِّدَ أبو نصر بن مروان الكردي آمد وميافارقين وديار بكر، وخلع عليه طوق وسواران، ولقب بناصر الدولة، ولم يتمكن ركب العراق وخراسان مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْحَجِّ لِفَسَادِ الطَّرِيقِ، وَغَيْبَةِ فخر الملك في إصلاح الأراضي.

وفيها عادت مملكة الأمويين ببلاد الأندلس فَتَوَلَّى فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيُّ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَعِينِ باللَّه، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِقُرْطُبَةَ. وَفِيهَا مَاتَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيِّ صَاحِبُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ. وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ التُّرْكِ الْأَعْظَمُ واسمه إيلك الخان، وتولى مكانه أَخُوهُ طُغَانُ خَانَ. وَفِيهَا هَلَكَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ، أُدْخِلَ بَيْتًا بَارِدًا فِي الشتاء وليس عليه ثياب حَتَّى مَاتَ كَذَلِكَ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ مِنُوجِهْرُ، وَلُقِّبَ فَلَكَ الْمَعَالِي، وَخُطِبَ لِمَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ كَانَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ عَالِمًا فَاضِلًا أَدِيبًا شَاعِرًا، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:

قُلْ لِلَّذِي بِصُرُوفِ الدَّهْرِ عَيَّرَنَا ... هَلْ عَانَدَ الدَّهْرُ إِلَّا مَنْ لَهُ خَطَرُ

أَمَا تَرَى الْبَحْرَ يَطْفُو فَوْقَهُ جِيَفٌ ... وَيَسْتَقِرُّ بِأَقْصَى قَعْرِهِ الدُّرَرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>