للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وصل إلى السلطان الأمير سيف الدين المشطوب مِنَ الْأَسْرِ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا حِينَ أُخِذَتْ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْهَا، وَاسْتَنَابَهُ عَلَى مدينة نابلس، فتوفى بها في شوال من هذه السنة. وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ قُتِلَ الْمَرْكِيسُ صَاحِبُ صُورَ لعنه الله، أرسل إليه ملك الانكليز اثنين من الفداوية فقتلوه: أظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا به فقتلاه وقتلا أيضا، فاستناب ملك الانكليز عليها ابن أخيه بلام الكندهر، وهو ابن أخت ملك الأفرنسيين نسيين لأبيه، فهما خالاه، ولما صار إلى صور بنى بِزَوْجَةِ الْمَرْكِيسِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ حُبْلَى أَيْضًا، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ الَّتِي كَانَتْ بين الانكليز وَبَيْنَهُ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ يُبْغِضُهُمَا، ولكن المركيس كان قد صانعه بعض شيء، فلم يهن عليه قتله.

وَفِي تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَلَى قَلْعَةِ الدَّارُومِ فَخَرَّبُوهَا، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَسَرُوا طَائِفَةً مِنَ الذُّرِّيَّةِ، ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ٢: ١٥٦، ثم أقبلوا جملة نحو القدس فبرز إليهم السلطان في حزب الايمان، فلما تراءى الجمعان نكص حزب الشيطان راجعين، فرارا من القتال والنزال، وعاد السلطان إلى القدس. (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) ٣٣: ٢٥ ثم إن ملك الانكليز لَعَنَهُ اللَّهُ- وَهُوَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ ذَلِكَ الحين- ظفر ببعض فلول الْمُسْلِمِينَ فَكَبَسَهُمْ لَيْلًا فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كثيرا من الأموال والجمال، والخيل والبغال، وكان جُمْلَةُ الْجِمَالِ ثَلَاثَةَ آلَافِ بَعِيرٍ، فَتَقَوَّى الْفِرِنْجُ بذلك، وَسَاءَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ مَسَاءَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَخَافَ من غائلة ذلك، واستخدم الانكليز الجمالة على الجمال، والخربندية على البغال، والسياس عَلَى الْخَيْلِ، وَأَقْبَلَ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ جِدًّا، وَصَمَّمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ، وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ بِالسَّاحِلِ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَتَعَبَّأَ السُّلْطَانُ لَهُمْ وَتَهَيَّأَ، وَأَكْمَلَ السُّورَ وعمر الخنادق، ونصب المنجانيق، وَأَمَرَ بِتَغْوِيرِ مَا حَوْلَ الْقُدْسِ مِنَ الْمِيَاهِ، وَأَحْضَرَ السُّلْطَانُ أُمَرَاءَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ جمادى الآخرة: أبا الهيجاء السمين، والمشطوب، والأسدية، فاستشارهم فِيمَا قَدْ دَهَمَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ، الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ، فَأَفَاضُوا فِي ذَلِكَ، وَأَشَارُوا كُلٌّ بِرَأْيهِ، وَأَشَارَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِأَنْ يَتَحَالَفُوا عَلَى الْمَوْتِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ. هَذَا كُلُّهُ وَالسُّلْطَانُ سَاكِتٌ وَاجِمٌ مُفَكِّرٌ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ: اعْلَمُوا أَنَّكُمْ جُنْدُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ وَمَنَعَتُهُ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلقة، والله عز وجل سائلكم يوم القيامة عنهم، وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم،

<<  <  ج: ص:  >  >>