بِبَغْدَادَ عَلَاءُ الدِّينِ الْجُوَيْنِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ فَذَكَرَ فِيهِ سِيرَتَهُ، وَمَا كَانَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعَقْلِ السِّيَاسِيِّ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَالتَّدْبِيرِ الْجَيِّدِ لِلْمُلْكِ وَالرَّعَايَا، وَالْحُرُوبِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ خَصِيصًا عِنْدَ الْمَلِكِ أُزْبَكْ خَانَ، وَكَانَ إذا ذَاكَ شَابًّا حَسَنًا وَكَانَ اسْمُهُ أَوَّلًا تَمَرْجِي، ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان، وَكَانَ هَذَا الْمَلِكُ قَدْ قَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، فَحَسَدَهُ عُظَمَاءُ الْمَلِكِ وَوَشَوْا بِهِ إِلَيْهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُ عليه، ولم يقتله وَلَمْ يَجِدْ لَهُ طَرِيقًا فِي ذَنْبٍ يَتَسَلَّطُ عليه به، فَهُوَ فِي ذَلِكَ إِذْ تَغَضَّبَ الْمَلِكُ عَلَى مملوكين صغيرين فهربا منه ولجئا إلى جنكيزخان فَأَكْرَمَهُمَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا فَأَخْبَرَاهُ بِمَا يُضْمِرُهُ الْمَلِكُ أزبك خان من قتله، فَأَخَذَ حِذْرَهُ وَتَحَيَّزَ بِدَوْلَةٍ وَاتَّبَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ التَّتَارِ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أُزْبَكْ خَانَ يَنْفِرُونَ إِلَيْهِ وَيَفِدُونَ عَلَيْهِ فَيُكْرِمُهُمْ وَيُعْطِيهِمْ حَتَّى قَوِيَتْ شَوْكَتُهُ وَكَثُرَتْ جُنُودُهُ، ثُمَّ حَارَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أُزْبَكْ خَانَ فَظَفَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ وَمُلْكِهِ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ عَدَدُهُ وَعُدَدُهُ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ وَبَعُدَ صِيتُهُ وَخَضَعَتْ لَهُ قَبَائِلُ الترك ببلاد طمعاج كُلِّهَا حَتَّى صَارَ يَرْكَبُ فِي نَحْوِ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَأَكْثَرُ الْقَبَائِلِ قَبِيلَتُهُ الَّتِي هُوَ منها يقال لهم قيان، ثُمَّ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إِلَيْهِ بَعْدَهُمْ قَبِيلَتَانِ كَبِيرَتَا العدد وهما أزان وقنقوران وَكَانَ يَصْطَادُ مِنَ السَّنَةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَالْبَاقِي لِلْحَرْبِ وَالْحُكْمِ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ:
وَكَانَ يَضْرِبُ الْحَلْقَةَ يَكُونُ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَتَضَايَقُ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يُحَدُّ كَثْرَةً، ثُمَّ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بينه وبين الملك علاء الدِّينِ خُوَارَزْمَ شَاهْ صَاحِبِ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وأذربيجان وغير ذلك والأقاليم والملك، فقهره جنكيزخان وَكَسَرَهُ وَغَلَبَهُ وَسَلَبَهُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى سَائِرِ بِلَادِهِ بِنَفْسِهِ وَبِأَوْلَادِهِ فِي أَيْسَرِ مُدَّةٍ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْحَوَادِثِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ جِنْكِزْخَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ قِتَالُهُ لِخُوَارَزْمَ شَاهْ فِي حُدُودِ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَمَاتَ خُوَارَزْمُ شَاهْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَاسْتَحْوَذَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَمَالِكِ بِلَا مُنَازِعٍ وَلَا مُمَانِعٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ فَجَعَلُوهُ فِي تَابُوتٍ مِنْ حَدِيدٍ وَرَبَطُوهُ بِسَلَاسِلَ وَعَلَّقُوهُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ هُنَالِكَ وأما كتابه الياسا فَإِنَّهُ يُكْتَبُ فِي مُجَلَّدَيْنِ بِخَطٍّ غَلِيظٍ، وَيُحْمَلُ على بعير عِنْدَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَصْعَدُ جَبَلًا ثُمَّ يَنْزِلُ ثُمَّ يَصْعَدُ ثُمَّ يَنْزِلُ مرارا حَتَّى يُعْيِيَ وَيَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُ مَنْ عِنْدَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا يُلْقَى عَلَى لِسَانِهِ حِينَئِذٍ، فَإِنْ كَانَ هَذَا هَكَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِهِ بِمَا فِيهَا. وَذَكَرَ الْجُوَيْنِيُّ أَنَّ بَعْضَ عُبَّادِهِمْ كَانَ يَصْعَدُ الْجِبَالَ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ لِلْعِبَادَةِ فَسَمِعَ قَائِلًا يقول له إنا قد ملكنا جنكيزخان وَذُرِّيَّتَهُ وَجْهَ الْأَرْضِ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ فَمَشَايِخُ الْمَغُولِ يُصَدِّقُونَ بِهَذَا وَيَأْخُذُونَهُ مُسَلَّمًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْجُوَيْنِيُّ نتفا من الياسا مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ مَنْ زَنَا قُتِلَ، مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَاطَ قُتِلَ، وَمَنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ قُتِلَ، وَمَنْ سَحَرَ قُتِلَ، وَمَنْ تَجَسَّسَ قُتِلَ، وَمَنْ دَخَلَ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فَأَعَانَ أَحَدَهُمَا قُتِلَ، وَمَنْ بَالَ فِي الْمَاءِ الْوَاقِفِ قُتِلَ، وَمَنِ انْغَمَسَ فِيهِ قُتِلَ، وَمَنْ أَطْعَمَ أَسِيرًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute