للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، عَلَيْهِ نُورُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ رَضِيَ الله عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. وَحُكِيَ أَنَّهُ اجْتَازَ رَاكِبًا فِي بعض أزفة بَغْدَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ رَمَضَانَ، فَرَأَى شَيْخًا كَبِيرًا وَمَعَهُ إِنَاءٌ فِيهِ طَعَامٌ قَدْ حَمَلَهُ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ لِمَ لَا أَخَذْتَ الطَّعَامَ مِنْ محلتك؟ أو أنت محتاج تأخذ مِنَ الْمَحَلَّتَيْنِ؟

فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا سَيِّدِي- وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ- وَلَكِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ، وقد نزل بى الوقت وأنا أستحى مِنْ أَهْلِ مَحَلَّتِي أَنْ أُزَاحِمَهُمْ وَقْتَ الطَّعَامِ، فيشمت بى من كان يبغضني، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطَّعَامِ وَأَتَحَيَّنُ وَقْتَ كَوْنِ النَّاسِ فِي صَلَاةِ المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لَا يَرَانِي أَحَدٌ.

فَبَكَى الْخَلِيفَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا دُفِعَتْ إِلَيْهِ فَرِحَ الشَّيْخُ فَرَحًا شَدِيدًا حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ انْشَقَّ قَلْبُهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ مَاتَ فخلف الألف دينار إلى الخليفة، لأنه لم يترك وَارِثًا. وَقَدْ أَنْفَقَ مِنْهَا دِينَارًا وَاحِدًا، فَتَعَجَّبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: شَيْءٌ قَدْ خَرَجْنَا عَنْهُ لَا يَعُودُ إِلَيْنَا، تَصَدَّقُوا بِهَا عَلَى فقراء محلته، فرحمه الله تعالى.

وَقَدْ خَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ ثَلَاثَةً، اثْنَانِ شَقِيقَانِ وَهُمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَعْصِمُ باللَّه الَّذِي وَلِيَ الخلافة يعده وَأَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَمِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَأُخْتُهُمَا مِنْ أُمٍّ أُخْرَى كَرِيمَةُ صَانَ اللَّهُ حِجَابَهَا.

وَقَدْ رَثَاهُ النَّاسُ بِأَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ أَوْرَدَ مِنْهَا ابْنُ السَّاعِي قِطْعَةً صَالِحَةً، وَلَمْ يَسْتَوْزِرْ أَحَدًا بَلْ أَقَرَّ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْقُمِّيَّ عَلَى نِيَابَةِ الْوِزَارَةِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ نَصْرُ الدِّينِ أَبُو الْأَزْهَرِ أحمد بن محمد النَّاقِدِ الَّذِي كَانَ أُسْتَاذَ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

خِلَافَةُ الْمُسْتَعْصِمِ باللَّه

أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ الشَّهِيدُ الَّذِي قَتَلَهُ التَّتَارُ بِأَمْرِ هلاكو ابن تولى ملك التتار بن جنكيزخان لعنهم اللَّهُ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أمير المؤمنين المستعصم باللَّه أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْصِرِ باللَّه أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرِ باللَّه أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَمِيرِ المؤمنين المستضيء باللَّه أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْجِدِ باللَّه أَبِي الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَظْهِرِ باللَّه أَبِي الْعَبَّاسِ أحمد بن الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ وَبَقِيَّةُ نَسَبِهِ إِلَى الْعَبَّاسِ فِي تَرْجَمَةِ جَدِّهِ النَّاصِرِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ كُلُّهُمْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ يَتْلُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْمُسْتَعْصِمِ، أَنَّ فِي نَسَبِهِ ثَمَانِيَةً نسقا ولوا الخلافة لَمْ يَتَخَلَّلْهُمْ أَحَدٌ، وَهُوَ التَّاسِعُ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى بمنه.

لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ اسْتُدْعِيَ هُوَ مِنَ التَّاجِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، ولقب بالمستعصم، وله من العمر يَوْمَئِذٍ ثَلَاثُونَ سَنَةً وَشُهُورٌ، وَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>