للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَبَوَّأَنَا الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزًّا ... وَعِنْدِ اللَّهِ يُلْتَمَسُ الثَّوَابُ

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي فَصْلٍ مَا كَانَ الله يحوط به رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالْعَبَّاسُ عَمُّهُ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا وَضَعَ إِزَارَهُ تَحْتَ الْحِجَارَةِ عَلَى كَتِفِهِ نُهِيَ عَنْ خَلْعِ إزاره فأعاده إلى سيرته الاولى.

فَصْلٌ

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعُوهُ فِي تَسْمِيَتِهِمُ الْحُمْسَ، وَهُوَ الشِّدَّةُ فِي الدِّينِ وَالصَّلَابَةُ.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَظَّمُوا الْحَرَمَ تَعْظِيمًا زَائِدًا بِحَيْثُ الْتَزَمُوا بِسَبَبِهِ أَنْ لَا يَخْرُجُوا منه ليلة عرفة. وكانوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَبْنَاءُ الْحَرَمِ وَقُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ. فَكَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا مِنْ مَشَاعِرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَتَّى لَا يَخْرُجُوا عَنْ نِظَامِ مَا كَانُوا قَرَّرُوهُ مِنَ الْبِدْعَةِ الْفَاسِدَةِ. وَكَانُوا لَا يَدَّخِرُونَ مِنَ اللَّبَنِ أقطا ولا سمنا ولا يسلون شَحْمًا وَهُمْ حُرُمٌ. وَلَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ وَلَا يَسْتَظِلُّونَ إِنِ اسْتَظَلُّوا إِلَّا بِبَيْتٍ مِنْ أَدَمٍ. وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْحَجِيجَ وَالْعُمَّارَ- مَا دَامُوا مُحْرِمِينَ- أَنْ يَأْكُلُوا إِلَّا مِنْ طَعَامِ قُرَيْشٍ، وَلَا يَطُوفُوا إِلَّا فِي ثِيَابِ قُرَيْشٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ثَوْبَ أَحَدٍ مِنَ الْحُمْسِ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدُوا وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ طَافَ عُرْيَانًا وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً وَلِهَذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا اتَّفَقَ طَوَافُهَا لِذَلِكَ وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى فَرْجِهَا وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله ... وبعد هذا اليوم لا أُحِلُّهُ

[١] فَإِنْ تَكَرَّمَ أَحَدٌ مِمَّنْ يَجِدُ ثَوْبَ أَحْمَسِيٍّ فَطَافَ فِي ثِيَابِ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ إِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أَنْ يُلْقِيَهَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَمَسَّهَا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي تِلْكَ الثِّيَابَ اللَّقَى قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:

كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ رَدًّا عَلَيْهِمْ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ فَقَالَ (ثُمَّ أَفِيضُوا من حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ٢: ١٩٩ أَيْ جُمْهُورُ الْعَرَبِ مِنْ عَرَفَاتٍ (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ) ٢: ١٩٩ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا حَرَّمُوا مِنَ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ عَلَى النَّاسِ (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ من الرِّزْقِ) ٧: ٣١- ٣٢ الآية. وَقَالَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَلَا أَدْرِي أَكَانَ ابْتِدَاعُهُمْ لِذَلِكَ قَبْلَ الْفِيلِ أَوْ بعده.


[١] وفي المصرية وابن هشام: وما بدا منه فلا أحله.

<<  <  ج: ص:  >  >>