للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المودة والنصيحة، ولولا ما أعرف من تقزّزك وتنطّسك [١] ؛ وأنك متى انتبهت على ما أنا ملقيه إليك لم آمن أن تستغشّني [٢] ، وإن لم تظهره لي. إن هذا اليمانيّ إنما يعتم أبدا، ويمدّ طرّة [٣] العمامة حتى يغطّي بها حاجبيه؛ لأن به داء لو علمت به لم تؤاكله! قال: فقال أبي: فرماني والله بمعنى كاد ينقض عليّ جميع ما بيدي، وقلت:

والله لئن أكلت معه وبه الذي به إنّ هذا لهو البلاء، ولئن منعت الجميع مؤاكلتي لأوحشنهم جميعا بعد المباسطة والمباثّة [٤] والملابسة والمؤاكلة، ولئن خصصته بالمنع أو أقعدته على غير مائدتي. ليغضبنّ، ولئن غضب ليغضبنّ معه كل قحطاني بالشام. فبت بليلة طويلة. فلما كان الغد وجلست، ودخلوا للسلام، جرى شيء من ذكر السموم وغرائب أعمالها، فأقبل عليّ ذلك الشيخ فقال: عندي من هذا بالمعاينة ما ليس عند أحد. خرجت مع ابن اخي هذا، ومع ابن عمّي هذا، ومع ابني هذا، أريد قريتي الفلانية، فإذا بقرب الجادّة بعير قد نهشته أفعى. وإذا هو وافر اللحم، وكل شيء حواليه من الطّير والسباع ميت، فقمنا منه على قاب أرماح نتعجب، وإذا عليه بعوض كثيرة.

فبينا أنا أقول لأصحابي: يا هؤلاء، إنكم لترون العجب: أول ذلك أن بعيرا مثل هذا يتفسّخ من عضة شيء لعله أن لا يكون في جسم عرق من عروقه، أو عصبة من عصبه، فما هذا الذي مجّه فيه، وقذفه إليه؟ ثم لم يرض بأن قتله حتى قتل كلّ طائر ذاق منه، وكلّ سبع عضّ عليه. وأعجب من هذا قتله لأكابر السّباع والطير، وتركه قتل البعوضة، مع ضعفها ومهانتها! فبينا نحن كذلك إذ هبّت ريح من تلقاء الجيفة، فطيّرت البعوض إلى شقّنا، وتسقط بعوضة على جبهتي، فما هو إلا أن عضتني إذ اسمأدّ [٥] وجهي تورّم رأسي، فكنت لا أضرب بيدي إلى شيء أحكّه من رأسي وحاجبي، إلا انتثر في يدي.

فحملت إلى منزلي في محمل وعولجت بأنواع العلاج، فبرأت بعد دهر طويل. على أنه أبقى عليّ من الشّين أنه تركني أقرع الرأس. أمرط الحاجبين.


[١] التقزز: التباعد من الدنس. التنطس: التقذر والتقزز.
[٢] استغشه: ظن به الغش.
[٣] طرة الشيء: طرفه.
[٤] المباثة: من البث؛ وهو إظهار الحديث.
[٥] اسمأد: ورم وانتفخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>