للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوحشة [١] . ومن انفرد وطال مقامه في البلاد [٢] والخلاء، والبعد من الإنس- استوحش. ولا سيّما مع قلة الأشغال والمذاكرين.

والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير. والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة. وقد ابتلى بذلك غير حاسب، كأبي يس ومثنّى ولد القنافر [٣] .

وخبّرني الأعمش أنه فكّر في مسألة، فأنكر أهله عقله، حتّى حموه وداووه.

وقد عرض ذلك لكثير من الهند.

وإذا استوحش الإنسان تمثّل له الشّيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب، وتفرّق ذهنه، وانتفضت أخلاطه، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع، وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيم جليل.

ثمّ جعلوا ما تصوّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانا. ونشأ عليه الناشئ، وربّي به الطّفل، فصار أحدهم حين يتوسّط الفيافي، وتشتمل عليه الغيظان في اللّيالي الحنادس- فعند أوّل وحشة وفزعة، وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، وقد رأى كلّ باطل، وتوهّم كلّ زور، وربما كان في أصل الخلق والطبيعة كذّابا نفّاجا [٤] ، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشّعر على حسب هذه الصّفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان! وكلّمت السّعلاة! ثمّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها ثمّ يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوّجتها!! قال عبيد بن أيّوب [٥] : [من الطويل]

فلله درّ الغول أيّ رفيقة ... لصاحب قفر خائف متقتّر

وقال [٦] : [من الطويل]

أهذا خليل الغول والذئب والذي ... يهيم بربّات الحجال الهراكل


[١] الوحشة: الخوف من الخلوة والهم.
[٢] البلد من الأرض: ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء.
[٣] القنافر: القصير.
[٤] النفّاج: الذي يفخر بما ليس عنده.
[٥] البيت في أشعار اللصوص ٢١٨، وتقدم ص ٤٠٠.
[٦] البيت في أشعار اللصوص ٢٢٨، وتقدم ص ٤٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>