للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سمّيت بأنبه النوعين ذكرا، وبأقواهما. والفصيح هو الإنسان، والأعجم كلّ ذي صوت لايفهم إرادته إلّا ما كان من جنسه. ولعمري إنا نفهم عن الفرس والحمار والكلب والسّنّور والبعير، كثيرا من إرادته وحوائجه وقصوره، كما نفهم إرادة الصبيّ في مهده ونعلم- وهو من جليل العلم- أنّ بكاءه يدلّ على خلاف ما يدلّ عليه ضحكه. وحمحمة الفرس عند رؤية المخلاة، على خلاف ما يدلّ عليه حمحمته عند رؤية الحجر، ودعاء الهرّة الهرّ خلاف دعائها لولدها، وهذا كثير.

والإنسان فصيح، وإن عبّر عن نفسه بالفارسيّة أو بالهنديّة أو بالروميّة، وليس العربيّ أسوأ فهما لطمطمة «١» الروميّ من الرومي لبيان لسان العربيّ. فكلّ إنسان من هذا الوجه يقال له فصيح، فإذا قالوا: فصيح وأعجم، فهذا هو التأويل في قولهم أعجم، وإذا قالوا العرب والعجم ولم يلفظوا بفصيح وأعجم، فليس هذا المعنى يريدون، إنّما يعنون أنّه لا يتكلّم بالعربيّة، وأنّ العرب لا تفهم عنه. وقال كثيّر: [من الطويل]

فبورك ما أعطى ابن ليلى بنيّة ... وصامت ما أعطى ابن ليلى وناطقه

ويقال «جاء بما صأى وصمت» «٢» . فالصامت مثل الذهب والفضّة، وقوله صأى يعني الحيوان كلّه، ومعناه نطق وسكت؛ فالصامت في كلّ شيء سوى الحيوان.

ووجدنا كون العالم بما فيه حكمة، ووجدنا الحكمة على ضربين: شيء جعل حكمة وهو لا يعقل الحكمة ولا عاقبة الحكمة، وشيء جعل حكمة وهو يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة. فاستوى بذاك الشيء العاقل وغير العاقل في جهة الدّلالة على أنّه حكمة؛ واختلفا من جهة أنّ أحدهما دليل لا يستدلّ، والآخر دليل يستدل، فكلّ مستدلّ دليل وليس كلّ دليل مستدلا، فشارك كل حيوان سوى الإنسان، جميع الجماد في الدّلالة، وفي عدم الاستدلال، واجتمع للإنسان أن كان دليلا مستدلّا.

ثمّ جعل للمستدلّ سبب يدلّ به على وجوه استدلاله، ووجوه ما نتج له الاستدلال، وسمّوا ذلك بيانا.

<<  <  ج: ص:  >  >>