للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدّا؛ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه. ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حارّ. وفي البارد الحارّ يقول الحسن بن هانئ: [من المنسرح]

قل لزهير إذا انتحى وشدا ... أقلل أو أكثر فأنت مهذار «١»

سخنت من شدّة البرودة ح ... تّى صرت عندي كأنّك النار

لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج بارد حار

ومن لك بطبيب أعرابيّ، ومن لك بروميّ هنديّ، وبفارسي يونانيّ، وبقديم مولّد، وبميّت ممتّع، ومن لك بشيء يجمع لك الأوّل والآخر، والناقص والوافر، والخفيّ والظاهر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغثّ والسمين، والشّكل وخلافه، والجنس وضدّه.

وبعد: فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن «٢» ، وروضة تقلّ في حجر، وناطقا ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء!! ومن لك بمؤنس لا ينام إلّا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى؛ آمن من الأرض، وأكتم للسرّ من صاحب السرّ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة، وأحفظ لما استحفظ من الآدميّين، ومن الأعراب المعربين، بل من الصّبيان قبل اعتراض الاشتغال، ومن العميان قبل التمتّع بتمييز الأشخاص، حين العناية تامّة لم تنقص، والأذهان فارغة لم تنقسم، والإرادة وافرة لم تتشعّب، والطّينة ليّنة، فهي أقبل ما تكون للطبائع، والقضيب رطب، فهو أقرب ما يكون من العلوق، حين هذه الخصال لم يخلق جديدها، ولم يوهن غربها، ولم تتفرّق قواها، وكانت كما قال الشاعر: [من الطويل]

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكّنا «٣»

<<  <  ج: ص:  >  >>