للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيقصّه المبتاع حينا، فما هو إلّا أن يجد في جناحه قوّة على النّهوض حتّى أراه أتاني جادفا أو غير جادف [١] . وربّما فعلت ذلك به مرارا كثيرة، كلّ ذلك لا يزداد إلّا وفاء.

قال أبو إسحاق: أمّا أنت فأراك دائبا تحمده وتذمّ نفسك. ولئن كان رجوعه إليك من الكرم إنّ إخراجك له من اللّؤم! وما يعجبني من الرّجال من يقطع نفسه لصلة طائر، وينسى ما عليه في جنب ما للبهيمة. ثم قال: خبّرني عنك حين تقول:

رجع إليّ مرّة بعد مرّة، وكلما زهدت فيه كان فيّ أرغب، وكلّما باعدته كان لي أطلب؛ إليك جاء، وإليك حنّ أم إلى عشّه الذي درج منه، وإلى وكره الذي ربّي فيه؟! أرأيت أن لو رجع إلى وكره وبيته ثمّ لم يجدك، وألفاك غائبا أو ميّتا، أكان يرجع إلى موضعه الذي خلّفه؟! وعلى أنّك تتعجّب من هدايته، وما لك فيه مقال غيره. فأمّا شكرك على إرادته لك، فقد تبيّن خطاؤك فيه، وإنما بقي الآن حسن الاهتداء، والحنين إلى الوطن.

٧٢٠-[هداية الرخم]

وقد أجمعوا على أنّ الرّخم من لئام الطير وبغاثها، وليست من عتاقها وأحرارها، وهي من قواطع الطّير، ومن موضع مقطعها إلينا ثمّ مرجعها إليه من عندنا، أكثر وأطول من مقدار أبعد غايات حمامكم. فإن كانت وقت خروجها من أوطانها إلينا خرجت تقطع الصّحارى والبراريّ والجزائر والغياض والبحار والجبال، حتّى تصير إلينا في كلّ عام- فإن قلت إنّها ليست تخرج إلينا على سمت ولا على هداية ولا دلالة، ولا على أمارة وعلامة، وإنما هربت من الثّلوج والبرد الشّديد، وعلمت أنّها تحتاج إلى الطّعم، وأنّ الثّلج قد ألبس ذلك العالم، فخرجت هاربة فلا تزال في هربها إلى أن تصادف أرضا خصبا دفئا، فتقيم عند أدنى ما تجد- فما تقول فيها عند رجوعها ومعرفتها بانحسار الثلوج عن بلادها؟! أليست قد اهتدت طريق الرّجوع!؟

ومعلوم عند أهل تلك الأطراف، وعند أصحاب التّجارب وعند القانص، أنّ طير كلّ جهة إذا قطعت رجعت إلى بلادها وجبالها وأوكارها، وإلى غياضها وأعشّتها. فتجد هذه الصّفة في جميع القواطع من الطّير، كرامها كلئامها، وبهائمها كسباعها. ثمّ لا يكون اهتداؤها على تمرين وتوطين، ولا عن تدريب وتجريب، ولم تلقّن بالتّعليم، ولم تثبّت بالتّدبير والتقويم. فالقواطع لأنفسها تصير إلينا، ولأنفسها تعود إلى أوكارها.


[١] جدف الطائر: طار وهو مقصوص «القاموس: جدف» .

<<  <  ج: ص:  >  >>