للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من العذرة، فكذلك لا شيء أقذر من الذّبان والقمل. وأمّا العذرة فلولا أنّها كذلك لكان الإنسان مع طول رؤيته لها، وكثرة شمّه لها من نفسه في كلّ يوم صباحا ومساء، لقد كان ينبغي أن يكون قد ذهب تقذّره له على الأيّام، أو تمحّق، أو دخله النّقص.

فثباتها ستين عاما وأكثر وأقلّ على مقدار واحد من النتن في أنف الرّجل ومنهم من وجدناه بعد مائة عام كذلك، وقد رأينا المران والعادات وصنيعها في الطّبائع. وكيف تهوّن الشديد، وتقلّل الكثير. فلولا أنّا فوق كلّ شيء من النّتن، لما ثبتت هذا الثّبات، ولعرض لها ما يعرض لسائر النّتن، وبعد فلو كان إنّما يشمّ شيئا خرج من جوف غيره ولم يخرج من جوف نفسه، لكان ذلك أشبه. فإذ قد ثبت في أنفه على هذا المقدار. وهو منه دون غيره، وحتّى صار يجده أنتن من رجيع جميع الأجناس- فليس ذلك إلّا لما قد خصّ به من المكروه.

وكذلك القول في القمل الذي إنّما يخلق من عرق الإنسان، ومن رائحته ووسخ جلده. وبخار بدنه. وكذلك الذّبّان المخالطة لهم في جميع الحالات، والملابسة لهم دون جميع الهوامّ والهمج والطّير والبهائم والسّباع حتّى تكون ألزم من كلّ ملازم، وأقرب من كلّ قريب؛ حتى ما يمتنع عليه شيء من بدن الإنسان، ولا من ثوبه، ولا من طعامه، ولا من شرابه، حتّى لزمه لزوما لم يلزمه شيء قطّ كلزومه، حتى إنّه يسافر السّفر البعيد من مواضع الخصب، فيقطع البراريّ والقفار التي ليس فيها ولا بقربها نبات ولا ماء ولا حيوان، ثم مع ذلك يتوخّى عند الحاجة إلى الغائط في تلك البرّية أن يفارق أصحابه، فيتباعد في الأرض، وفي صحراء خلقاء [١] ، فإذا تبرّز فمتى وقع بصره على برازه رأى الذّبّان ساقطا عليه. فقبل ذلك ما كان يراه. فإن كان الذّباب شيئا يتخلّق له في تلك الساعة فهذه أعجب مما رآه ومما أردنا وأكثر ممّا قلنا. وإن كان قد كان ساقطا على الصّخور الملس، والبقاع الجرد، في اليوم القائظ، وفي الهاجرة التي تشوي كلّ شيء، وينتظر مجيئه- فهذا أعجب ممّا قلنا. وإن كانت قد تبعته من الأمصار، إمّا طائرة معه، وإمّا ساقطة عليه، فلما تبرّز انتقلت عنه إلى برازه، فهذا تحقيق لقولنا إنّه لا يلزم الإنسان شيء لزوم الذباب؛ لأنّ العصافير، والخطاطيف، والزّرازير، والسّنانير، والكلاب وكلّ شيء يألف النّاس، فهو يقيم مع النّاس. فإذا مضى الإنسان في سفره، فصار كالمستوحش، وكالنّازل بالقفار، فكلّ شيء أهليّ يألف النّاس فإنّما هو مقيم على مثل ما كان من إلفه لهم، لا يتبعهم من دور النّاس إلى منازل الوحش؛ إلّا الذّبّان.


[١] خلقاء: لا نبات فيها «القاموس: خلق» .

<<  <  ج: ص:  >  >>