للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فانظر، أيّة واقية وأيّة حافظة، وأيّ حارس، وأيّ حصن أنشأه لها هذا القول! وأيّ حظّ كان لها حين صدّقوا بهذا الخبر هذا التصديق! والطّمع هو الذي أثار هذا الأمر من مدافنه، والفقر هو الذي اجتذب هذا الطّمع واجتلبه. ولكن الويل لها إن ألّحت على غنيّ عالم، وخاصّة إن كان مع جدته وعلمه حديدا عجولا.

٧٩٣-[اعتقاد العامة في أمير الذّبّان]

وقد كانوا يقتلون الذباب الكبير الشديد الطنين الملحّ في ذلك، الجهير الصوت، الذي تسميه العوامّ: «أمير الذّبّان» ، فكانوا يحتالون في صرفه وطرده وقتله، إذا أكربهم بكثرة طنينه وزجله وهماهمه فإنّه لا يفتر. فلمّا سقط إليهم أنّه مبشّر بقدوم غائب وبرء سقيم، صاروا إذا دخل المنزل وأوسعهم شرّا، لم يهجه أحد منهم.

وإذا أراد الله عزّ وجلّ أن ينسئ في أجل شيء من الحيوان هيّأ لذلك سببا، كما أنّه إذا أراد أن يقصر عمره ويحين يومه هيّأ لذلك سببا. فتعالى الله علوّا كبيرا! ثمّ رجع بنا القول إلى إلحاح الذّبّان.

٧٩٤-[إلحاح الذّباب]

كان لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار، لم ير النّاس حاكما قطّ ولا زمّيتا ولا ركينا، ولا وقورا حليما، ضبط من نفسه وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك. كان يصلّي الغداة في منزله، وهو قريب الدّار من مسجده، فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتّكئ، فلا يزال منتصبا ولا يتحرّك له عضو، ولا يلتفت، ولا يحلّ حبوته [٢] ولا يحوّل رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتّى كأنّه بناء مبنيّ، أو صخرة منصوبة. فلا يزال كذلك، حتّى يقوم إلى صلاة الظهر ثمّ يعود إلى مجلسه فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمّ يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثمّ ربما عاد إلى محلّه، بل كثيرا ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهود والشّروط والوثائق، ثمّ يصلّي العشاء الأخيرة وينصرف.

فالحق يقال: لم يقم في طول تلك المدّة والولاية مرّة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشّراب. كذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي


[١] وردت القصة في ثمار القلوب ٣٩٦ (٧٢٥) ، وأمالي المرتضى ٢/١٠٥ (٤/٢٢) .
[٢] الاحتباء: أن يضم الرجل رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها، وهو منهي عنه كما في الحديث الوارد في النهاية ١/٣٣٥، واللسان (حبا) .

<<  <  ج: ص:  >  >>