للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قصارها، وفي صيفها وفي شتائها. وكان مع ذلك لا يحرّك يده، ولا يشير برأسه.

وليس إلّا أن يتكلم ثمّ يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة. فبينا هو كذلك ذات يوم وأصحابه حواليه، وفي السّماطين بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب فأطال المكث، ثمّ تحوّل إلى مؤق عينه، فرام الصّبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه من غير أن يحرّك أرنبته، أو يغضّن وجهه، أو يذبّ بإصبعه. فلمّا طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التّغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحّى ريثما سكن جفنه، ثمّ عاد إلى مؤقه بأشدّ من مرّته الأولى فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصّبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه وزاد في شدّة الحركة وفي فتح العين، وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، فما زال يلحّ عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده. فلم يجد بدّا من أن يذبّ عن عينيه بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمقه، وكأنّهم لا يرونه، فتنحّى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته ثمّ عاد إلى موضعه، ثمّ ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أنّ فعله كلّه بعين من حضره من أمنائه وجلسائه. فلمّا نظروا إليه قال: أشهد أنّ الذّباب ألحّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب! وأستغفر الله! فما أكثر من أعجبته نفسه فأراد الله عزّ وجلّ أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورا! وقد علمت أني عند الناس من أزمت الناس، فقد غلبني وفضحني أضعف خلقه! ثمّ تلا قوله تعالى: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ

[١] .

وكان بيّن اللّسان، قليل فضول الكلام، وكان مهيبا في أصحابه، وكان أحد من لم يطعن عليه في نفسه، ولا في تعريض أصحابه للمنالة.

٧٩٥-[قصّة في إلحاح الذباب]

فأمّا الذي أصابني أنا من الذّبّان، فإنّي خرجت أمشي في المبارك [٢] أريد دير الربيع، ولم أقدر على دابّة، فمررت في عشب أشب [٣] ونبات ملتفّ كثير الذّبّان،


[١] ٧٣/الحج: ٢٢.
[٢] المبارك: اسم نهر بالبصرة؛ احتفره خالد القسري، والمبارك: نهر وقرية فوق واسط. معجم البلدان ٥/٥٠.
[٣] عشب أشب: ملتف «القاموس: أشب» .

<<  <  ج: ص:  >  >>