للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا عرفتم الجواهر وحظوظها من القوى، فعند ذلك فتعاطوا الإنكار والإقرار، وإلّا فكونوا في سبيل المتعلم، أو في سبيل من آثر الرّاحة ساعة على ما يورث كدّ التعلّم من راحة الأبد. قد يكون أن يجيء على جهة التوليد شيء يبعد في الوهم مجيئه، ويمتنع شيء هو أقرب في الوهم من غيره؛ لأنّ حقائق الأمور ومغيّبات الأشياء، لا تردّ إلى ظاهر الرّأي، وإنما يردّ إلى الرّأي ما دخل في باب الحزم والإضاعة وما هو أصوب وأقرب إلى نيل الحاجة. وليس عند الرّأي علم بالنّجح والإكداء؛ كنحو مجيء الزّجاج من الرّمل، وامتناع الشّبه [١] والزئبق من أن يتحوّل في طبع الذّهب والفضّة. والزئبق أشبه بالفضّة المايعة من الرّمل بالزجاج الفرعونيّ. والشّبه الدمشقي بالذهب الإبريز أشبه من الرّمل بفلق [٢] الزجاج النقيّ الخالص الصافي.

ومن العجب أنّ الزّجاج- وهو مولّد- قد يجري مع الذهب في كثير مفاخر الذّهب؛ إذ كان لا يغيّر طبعه ماء ولا أرض؛ والفضّة التي ليست بمولدة إذا دفنت زمانا غير طويل استحالت أرضا. فأمّا الحديد فإنّه في ذلك سريع غير بطيء.

وقد زعم ناس أنّ الفرق الذي بينهما إنما هو أنّ كلّ شيء له في العالم أصل وخميرة، لم يكن كالشيء الذي يكتسب ويجتلب ويلفّق ويلزّق، وأن الذّهب لا يخلو من أن يكون ركنا من الأركان قائما منذ كان الهواء والماء والنار والأرض. فإن كان كذلك فهو أبعد شيء من أن يولّد النّاس مثله. وإن كان الذّهب إنما حدث في عمق الأرض، بأن يصادف من الأرض جوهرا. ومن الهواء الذي في خلالها جوهرا، ومن الماء الملابس لها جوهرا، ومن النار المحصورة فيها جوهرا، مع مقدار من طول مرور الزمان، ومقدار من مقابلات البروج. فإن كان الذّهب إنما هو نتيجة هذه الجواهر على هذه الأسباب، فواجب ألّا يكون الذهب أبدا إلّا كذلك.

فيقال لهؤلاء: أرأيتم الفأرة التي خلقت من صلب جرذ ورحم فأرة، وزعمتم أنّها فأرة على مقابلة من الأمور السّماويّة والهوائيّة والأرضية وكانت نتيجة هذه الخصال، مع استيفاء هذه الصّفات؟ ألسنا قد وجدنا فأرة أخرى تهيّأ لها من أرحام الأرضين، ومن حضانة الهواء، ومن تلقيح الماء، ومن مقابلات السماويّات والهوائيّات. فالزّمان أصار جميع ذلك سببا لفأرة أخرى مثلها. وكذلك كلّ ما عددناه فمن أين يستحيل أن يخلط الإنسان بين مائيّة طبيعية ومائيّة جوهر؟ إمّا من طريق


[١] الشّبه: النحاس الأصفر. «القاموس: شبه» .
[٢] فلق: جمع فلقة، وهي القطعة. «القاموس: فلق» .

<<  <  ج: ص:  >  >>