للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

١١١٣-[عود إلى القول في الحيات]

ثمّ رجع بنا القول إلى ما في الحيّات من العلم والعبرة، والفائدة والحكمة؛ ولذلك قال أبو ذرّ الغفاريّ: «لقد تركنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما يمرّ بنا طائر إلا وعندنا من شأنه علم» . وهذا القول صحيح عن أبي ذر، ولم يخصّ أبو ذرّ خشاش الطّير من بغاثها وأحرارها، ولا ما يدخل في بابة الهمج. وقد أريناك من تحقيق قوله طرفا. ولعلك إن جمعت نظرك إلى نظرنا، أن تستتمّ هذا الباب، فقد قال الشاعر [١] : [من الطويل]

خليليّ ليس الرأي في رأي واحد ... أشيرا عليّ اليوم ما تريان

وقال الأحنف: «ما من الناس أحد إلّا وقد تعلّمت منه شيئا، حتّى من الأمة الورهاء والعبد الأوره» .

والحيّات مختلفات الجهات جدّا، وهي من الأمم التي يكثر اختلاف أجناسها في الضّرر والسمّ، وفي الصّغر والعظم، وفي التعرّض للنّاس، وفي الهرب منهم. فمنها ما لا يؤذي إلّا أن يكون الناس قد آذوها مرّة. وأمّا الأسود فإنّه يحقد ويطالب، ويكمن في المتاع حتى يدرك بطائلته. وله زمان يقتل فيه كلّ شيء نهشه.

وأمّا الأفعى فليس ذلك عندها، ولكنها تظهر في الصّيف مع أوّل الليل، إذا سكن وهج الرّمل وظاهر الأرض؛ فتأتي قارعة الطّريق حتى تستدير وتطحن كأنّها رحى، ثمّ تلصق بدنها بالأرض وتشخص رأسها؛ لئلّا يدركها السّبات، معترضة؛ لئلّا يطأها إنسان أو دابّة فتنهشه. كأنّها تريد ألّا تنهش إلّا بأن يتعرّض لها، وهي قد تعرّضت لنهشه باعتراضها في الطّريق وتناومها عليه! وهي من الحيّات التي ترصد وتوصف بذلك. قال معقل بن خويلد [٢] : [من الطويل]

أبا معقل لا توطئنكم بغاضتي ... رؤوس الأفاعي في مراصدها العرم

يريد: الأفاعي في مراصدها. وكلّ منقّطة فهي عرماء، من شاة أو غير ذلك.

وقال آخر: [من الرجز]

وكم طوت من حنش وراصد ... للسّفر في أعلى البيات قاصد


[١] البيت لعطارد بن قران الحنظلي في الحماسة البصرية ١/١٠٧، ولطهمان بن عمرو الدارمي في معجم البلدان ٢/٤٦٣ (دمخ) ، وبلا نسبة في محاضرات الراغب ١/١٢ (١/٢٩) .
[٢] البيت لمعقل الهذلي في شرح أشعار الهذليين ٣٨٣، واللسان (رصد، بغض، عرم) ، والتاج (بغض، عرم) ، وبلا نسبة في التهذيب ٢/٣٩١، والمقاييس ٤/٢٩٣، والمخصص ٧/١٩٤، ٨/١١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>