للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شرطا معتبرا ولا يعول عليه، ولو جاز ترك الإيجاز البليغ لأجل إفهام العوام لجاز ترك الألفاظ الفصيحة والإتيان فى الكلام بالألفاظ العامية المألوفة عندهم، فكما أن هذا ليس شرطا فهكذا ما ذكروه ولقد صدق من قال فى هذا المعنى:

على نحت القوافى من مقاطعها ... وما علىّ إذا لم تفهم البقر

وإنما الذى يجب مراعاته ويتوجه إليه قصده، هو الإتيان بالألفاظ الوجيزة الفصيحة، والتجنب للألفاظ الوحشية مع الوفاء فى ذلك بالإبانة والإفصاح، وسواء فهم العوام أم لم يفهموا، فإنه لا عبرة بهم ولا اعتداد بأحوالهم ولا يضر الكلام الفصيح عدم فهمهم لمعناه، ولهذا فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا يكون نقصا فى وضوحه وجلائه، وإنما النقص فى بصر الأعمى حيث لم يدركه، ولهذا فإن الله تعالى ما خاطب بفهم معانى كتابه الكريم إلا الأذكياء، وأعرض عن البله من العوام وشبّههم فى العمى والبلادة بالأنعام حيث قال: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)

[الأعراف: ١٧٩] والتطويل نقيض الإيجاز، وهو مخالف لجانب البلاغة، وبمعزل عن مقاصد الفصاحة، وحاصله أن تورد ألفاظا فى الكلام إذا أسقطت بقى على حاله فى الإفادة، وأكثر ما يكون فى الأشعار فإنها تورد من أجل الاستقامة فى الوزن، كلفظ «لعمرى» فى قول أبى تمام:

أقرّوا لعمرى بحكم السيوف ... وكانت أحقّ بفصل القضا

ونحو لفظ «الغداة» فى قوله أيضا «١» :

إذا أنا لم ألم عثرات دهر ... بليت به الغداة فمن ألوم

فقوله: لعمرى، والغداة، فصلان زائدان لا حاجة إليهما إلا من أجل استقامة الوزن، وصحته، وكلفظ «يا صاحبى» فى قول البحترى

ما أحسن الأيام إلّا أنّها ... يا صاحبى إذا مضت لم ترجع

فقوله: «يا صاحبى» لغو لافائدة تحته سوى ما ذكرناه من تحسين لفظ البيت وتجويده، وهكذا القول فيما أشبهه، وهو خلاف ما عليه كلام البلغاء فإن من شأن الفصاحة أن تكون الألفاظ مطابقة لمعانيها المقصودة لها من غير زيادة فيها ولا نقصان، وإذ قد فرغنا عما نريده من ذكر ديباجة الإيجاز فلنرجع إلى مقاصده.

<<  <  ج: ص:  >  >>