للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المكابرة ودعاء له إلى الإذعان والانقياد للحق، وقدمه على كونه صادقا دلالة على كونه صادقا دلالة على ذلك، وأما ثانيا فلأنه فرض صدقه على جهة التقدير مع كونه مقطوعا بصدقه، تقريبا للخصم وتسليما لما يدعيه من ذلك، وهضما لجانب الرسول زيادة فى الإنصاف ومبالغة فيه، وأما ثالثا فإنه أردفه بقوله يصبكم بعض الذى يعدكم، وإن كان التحقيق أنه يصيبهم كل ما يعدهم به لا محالة من أجل الملاطفة أيضا وأما رابعا فإنه أتى «بإن» للشرط، وهى موضوعة للأمور المشكوك فيها، ليدل بذلك على أنه غير مقطوع بما يقوله على جهة الفرض، وإذعانا للخصم على التقدير لإرادة هضمه لحقه وأنه غير معط له ما يستحقه من التعظيم، وأما خامسا فقوله تعالى: فى آخر الآية إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب، إنما أتى به على التلطف والإنصاف مخافة أن يبعدوا عن الهداية ومحاذرة عن نفارهم عن طريق الصواب فرضا وتقديرا، وإلا فلو كان مسرفا كذابا، لما هداه الله إلى النبوة، ولما أعطاه إياها، وفى هذا الكلام من الاستدراج للخصم وتقريبه وإدنائه إلى الحق ما لا يخفى على أحد من الأكياس، وقد تضمن من اللطائف ما لا سبيل إلى جحده، ومن هذا قوله تعالى: فى قصة خليله إبراهيم صلوات الله عليه فى خطابه لأبيه وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)

[مريم: ٤١- ٤٥] فهذا كلام يهز الأعطاف ويأخذ بمجامع القلوب فى الاستدراج والإذعان والانقياد بألطف العبارات وأرشقها، وهو مشتمل على حسن الملاطفة من أوجه: أما أولا فلأن إبراهيم صلوات الله عليه لما أراد هداية أبيه إلى الخير وإنقاذه مما هو متورط فيه من الكفر والضلال الذى خالف فيه العقل، ساق معه الكلام على أحسن هيئة، ورتبه على أعجب ترتيب، من حسن الملاطفة والاستدراج والرفق فى الخصمة والحجاج، والأدب العالى وحسن الخلق الحميد، وذلك أنه بدأ بطلب الباعث له على عبادة الأوثان والأصنام، ليتوصل بذلك إلى قطعه وإفحامه، ثم إنه تكايس معه بأن عرض إليه بأن من لا يسمع ولا يبصر لا يغنى شيئا من الأشياء لا يكون حقيقا بالعبادة وأن من كان حيّا سميعا بصيرا مقتدرا على الإثابة والعقاب متمكنا من العطاء والإنعام والتفضل، من الملائكة وسائر الأنبياء من جملة الخلق فإنه لا يستحق العبادة ويستسخف

<<  <  ج: ص:  >  >>