للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، فانظر إلى هذا الكلام ما أعجب تلاؤمه وأعظم تناسبه، فكان بعضه آخذا بأعناق بعض، فلو سكت على كل كلمة لكانت معربة بأختها قبل ذكرها، وهذا هو شأن الإرصاد وحقيقة أمره، فلو سكت على قوله «فإذا التبست عليكم الأمور» لأفهم بقوله «كقطع الليل المظلم» لأن اللبس هو أن لا يهتدى فيه للأمر، كما أن الظلمة لا يهتدى فيها للطريق وقوله «شافع» دال على القبول لأنه فى معرض المدح، وإعلام بكونه مشفعا وقوله «شاهد مصدق» لأن الصدق أحسن ما يعرض للشهادة عند الحكام، فإذا كانت المدح فأحسن أحوالها كونها صادقة وقوله «من جعله أمامه» لأن كل من كان أمامك فهو آخذ بزمامك كما يقاد الجمل بزمامه من قدامه، وهو كناية عن العمل بأوامره ونواهيه وقوله «ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» لأن من كان خلفك فهو يسوقك كما تساق الدابة من خلفها، وهو كناية عن إهماله وتضييع أحكامه وترك العمل بها، فلو سكت على قوله «أمام» و «خلف» لأفهما ما وراءهما من ذلك، ثم قال «وهو أوضح دليل» فأفهم خير السبيل من جهة أن الدليل لابد له من ثمرة وهو الهداية إلى الطريق، ثم قال «من قال به صدق» لأنه لا يعرض للقول الحسن إلا صدقه «ومن عمل به أجر» لأنه لا ثمرة للعمل إلا الأجر، وقوله «ومن حكم به عدل» لأنه لا جدوى للحكم إلا إذا كان عادلا فحصل من هذا أن الأمر على ما قلناه من أن هذه الكلمات كلها ملتئمة كأنها أفرغت فى قالب واحد وفى هذا كفاية ليقاس عليه غيره.

[المثال الثالث من كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه،]

فمن ذلك كتاب كتبه إلى بعض عماله يوصيه بما هو بصدده، أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم، وسدّ به أفواه الثغر المخوف، فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حيث لا تغنى عنك إلا الشدة، واخفض للرعية جناحك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم فى اللحظة، والنظرة، والإشارة، والتحية، حتى لا يطمع العظماء فى حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك والسلام. فانظر إلى كلامه هذا لقد جمع فيه محامد الأخلاق الشريفة وأتى فيه بمحاسن الشيم السامية مع ما أشار إليه من حسن الإيالة وجميل السياسة، وضم فيه من آداب الولاة وتعليم معاملة الخلق، والرفق بالرعية. والإرشاد إلى مصالح السيرة فيهم مع ما أشار إليه

<<  <  ج: ص:  >  >>