للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عرف من حاله أن لا بد من ذكر المستقبل بحكمه، وهو الجهل بما يكون غدا، فلأجل هذا كان الإرصاد فيه سابقا معلوما، ومن ذلك ما قاله أبو تمام:

فإن يك جرم، أو أتيت بهفوة ... على خطأ منّى فعذرى على عمد

فما هذا حاله من أحسن ما يأتى فى الإرصاد فإنه لما ذكر الخطأ حسن وقوع العمد بعده وكان مفهوما عند الوقوف على قوله «على خطأ منى» بلا مرية، ومن ذلك ما قاله أيضا:

خرقاء تلعب بالعقول مزاجها ... كتلعّب الأفعال بالأسماء

فإنه لما ذكر الأفعال علم لا محالة أن عجز البيت أن يأتى بلفظة الأسماء لما سبق ذكر الأفعال، فمن قرع مسامعه هذا البيت وكان له ذوق فى العربية، فإنه يعرفه قطعا. وقال أيضا:

مودّة، ذهب، أثمارها شبه ... وهمة جوهر، معروفها عرض

فإنه لما ذكر الذهب جعل فى مقابله الشبه، ولما ذكر الجوهر علم أن مقابله العرض، وهذا إرصاد حسن، وحكى ابن الأثير عن بعض علماء البيان أنه ينبغى لمن يتكلم فى المنظوم والمنثور أن يجنب كلامه الألفاظ المصطلح عليها بين النحاة والمتكلمين وأهل الصناعات وغيرهم، وهذا فاسد لا وجه له فإن الشاعر والكاتب يخوضان فى كل شىء ولا يقتصر خوضهما على فن دون فن، ولا اصطلاح دون اصطلاح، ولهذا فإنك تراهم إذا استعملوا شيئا من الكلمات المصطلح عليها فى العلوم أو فى الصناعات فى أشعارهم ورقائقهم، وجدت له أحسن موقع، وازداد جمالها، وظهر رونقها وكمالها، فهذا ما أردنا ذكره فى معانى الإرصاد.

<<  <  ج: ص:  >  >>