للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منظوما على أتم نظام وأحسنه وأكمله فهذه هى الوجه فى الإعجاز، والبرهان على ما ادعيناه من ذلك هو أن الآيات التى يذكر فيه التحدى واردة على جهة الإطلاق ليس فيها تحد بجهة دون جهة، لأنه لم يذكر فيها أنه تحداهم، لا بالبلاغة ولا بالفصاحة، ولا بجودة النظم والسياق، ولا بكونه مشتملا على الأمور الغيبية، ولا لاشتماله على الأسرار والدقائق، وتضمنه المحاسن والعجائب، ولا أشار إلى شىء خاص يكون مقصدا للتحدى، وإنما قال: بمثله، وبسورة، وبعشر سور على الإطلاق، ثم إن العرب أيضا ما استفهموه عما يريد بتحديهم فى ذلك، ولا قالوا ما هو المطلوب فى تحدينا، بل سكتوا عن ذلك، فوجب أن يكون سكوتهم عن ذلك لا وجه له إلا لما قد علم من اطراد العادات المقررة بين أظهرهم أن الأمر فى ذلك معلوم أنه لا يقع إلا بما ذكرناه من البلاغة والفصاحة وجودة السياق والنظم، فإن المعلوم من حال الشعراء والخطباء، وأهل الرسائل والكلام الواقع فى الأندية المشهورة والمحافل المجتمعة، أنهم إذا تحدى بعضهم بعضا فى شعر، أو خطبة أو رسالة، فإنه لا يتحداه إلا بمجموع ما ذكرناه من هذه الأمور الثلاثة ولم يعهد قط فى الأزمنة الماضية والآماد المتمادية، أن أحدا تحدى أحدا منهم برقة شعره، ولا باشتماله على أمور محجوبة، ولا بعدم التناقض فيها، وفى هذا دلالة كافية على أن تعويلهم فى التحدى إنما هو على ما ذكرناه فيجب حمل القرآن فى الآيات المطلقة عليه، وفى ذلك حصول ما أردناه، وتمام تقرير هذه الدلالة بإيراد الأسئلة عليها والانفصال عنها.

السؤال الأول منها قد زعمتم أن وجه إعجاز القرآن إنما هو الفصاحة، والبلاغة، والنظم، وحاصل هذه الأمور كلها إما أن تكون راجعة إلى مفردات الكلم، أو تكون راجعة إلى مركباتها، ولا شك أن العرب قادرون على المفردات لا محالة ولا شك أن كل من قدر على المفردات فهو قادر على مركباتها، فلو كان كما ذكرتموه لكان العرب قادرين على المعارضة، وهذا يدل على أن وجه إعجازه ليس أمرا راجعا إلى البلاغة، والفصاحة، والنظم، وهذا هو المطلوب.

وجوابه إنما يكون بعد تمهيد قاعدة، وهو أن التفاوت بين الكتابين فى الجودة والكتابة إنما يكون من جهة العلم بإحكام التأليف بين الحروف وتنزيلها على أحسن هيئة فى الإيقاع، فمن كان أجود علما بإحكام التأليف كانت كتابته أعجب، ومن كان عادما للعلم بما ذكرناه نقص إتقان كتابته، فكل واحد منهما قد أحرز ما تحتاج إليه الكتابة من الآلات

<<  <  ج: ص:  >  >>