للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم السبيل يسره

؛ لأن بين خلقته وتقديره في بطن أمه وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مهلة وزمانا؛ فلذلك عطفه بثم، وعلى هذا جاء قوله تعالى: ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره

؛ لأن بين إخراجه من بطن أمه وبين موته تراخيا وفسحة، وكذلك بين موته ونشوره أيضا، ولذلك عطفهما بثم، ولما لم يكن بين موت الإنسان وإقباره تراخ ولا مهلة عطفه بالفاء، وهذا موضع من علم البيان شريف، وقلما يتفطن لاستعماله كما ينبغي.

ومما جاء من ذلك أيضا قوله تعالى في قصة مريم وعيس عليهما السلام:

فحملته فانتبذت به مكانا قصيا. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا

وفي هذه الآية دليل على أنه حملها به ووضعها إياه كانا متقاربين؛ لأنه عطف الحمل والانتباذ إلى المكان الذي مضت إليه والمخاض الذي هو الطّلق بالفاء، وهي للفور، ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى قتل الإنسان ما أكفره. من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره. ثم السبيل يسره

فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه منه مدّة متراخية عطف ذلك بثم، وهذا بخلاف قصة مريم عليها السلام، فإنها عطفت بالفاء، وقد اختلف الناس في مدة حملها؛ فقيل: إنه كان كحمل غيرها من النساء، وقيل: لا، بل كان مدة ثلاثة أيام، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، وهذه الآية مزيلة للخلاف؛ لأنها دلت صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة، وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل؛ أخذا بما دلت عليه الآية.

ومما ورد من هذا الأسلوب قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر

ففي الآية المتقدم ذكرها قال: من نطفة خلقه فقدره

فعطف التقدير على الخلق بالفاء؛ لأنه تابع له، ولم يذكر تفاصيل حال المخلوق، وفي هذه الآية ذكر تفاصيل حاله في تنقله، فبدأ بالخلق الأول، وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو

<<  <  ج: ص:  >  >>