للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قصيدة، وهذا أصعب الضروب الأربعة طريقا، وأضيقها بابا؛ لأنه يتفرع إلى أساليب كثيرة من المعاني، وأرباب النظم والنثر يتفاوتون فيه، وليس الخاطر الذي يقذف بالدرر في مثله إلا معدوم الوجود، ومثاله ومثال الإيجاز مثال مجمل ومفصل؛ وقد تقدم القول بأن الإيجاز والإطناب والتطويل بمنزلة مقصد يسلك إليه ثلاثة طرق، وقد أوردت ههنا أمثلة لهذه الأساليب الثلاثة، وجعلتها على هيئة المقصد الذي تسلك إليه الطرق الثلاثة.

فمن ذلك ما ذكرته في وصف بستان ذات فواكه متعددة؛ فإذا أريد وصفه على حكم الإيجاز قيل: فيه من كل فاكهة زوجان؛ وهذا كلام الله تعالى؛ وقد جمع جميع أنواع الفاكهة بأحسن لفظ وأخصره. وإذا أريد وصف ذلك البستان على حكم الإطناب قيل فيه ما أذكره، وهو فصل من كتاب أنشأته، وهو: جنة علت أرضها أن تمسك ماء، وغنيت بينبوعها أن تستجدي سماء، وهي ذات ثمار مختلفة الغرابة، وتربة منجبة وما كل تربة توصف بالنّجابة، ففيها المشمش الذي يسبق غيره بقدومه، ويقذف أيدي الجانين بنجومه، فهو يسمو بطيب الفرع والنّجار، ولو نظم في جيد الحسناء لاشتبه بقلادة من نضار، وله زمن الربيع الذي هو أعدل الأزمان، وقد شبه بسن الصبا في الأسنان، وفيها التفاح الذي رقّ جلده، وعظم قدّه، وتورّد خدّه، وطابت أنفاسه فلابان الوادي ولا رنده، وإذا نظر إليه وجد منه حظ الشم والنظر، ونسبته من سرر الغزلان أولى من نسبته إلى منابت الشجر، وفيها العنب الذي هو أكرم الثمار طينة، وأكثرها ألوان زينة، وأول غرس اغترسه نوح عليه السلام عند خروجه من السفينة فقطفه يميل بكف قاطفه، ويغري بالوصف لسان واصفه، وفيها الرّمّان الذي هو طعام وشراب، وبه شبهت نهود الكعاب، ومن فضله أنه لا نوى له فيرمى نواه، ولا يخرج اللؤلؤ والمرجان من فاكهة سواه، وفيها التين الذي أقسم الله به تنويها بذكره، واستتر آدم عليه السلام بورقه إذا كشفت المعصية من ستره، وخصّ بطول الأعناق فما يرى بها من ميل فهو نشوة من سكره، وقد وصف بأنه راق طعما، ونعم جسما، وقيل هذا كنيّف مليء شهدا لا كنيف ملىء علما، وفيها من ثمرات النخيل ما يزهى بلونه وشكله، ويشغل بلذة منظره عن لذة أكله، وهو الذي فضل ذوات الأفنان بعرجونه، ولا تماثل بينه وبين الحلواء هذا خلق الله فأروني ماذا

<<  <  ج: ص:  >  >>