للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هو أن النفس كل ما عليها فهو بها؛ أعني أن كل ما هو وبال عليها وضارّ لها فهو بسببها ومنها: لأنها الأمارة بالسوء، وكل ما هو لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه إياها، وهذا حكم عام لكل مكلّف، وإنما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسند ذلك إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع علوّ محله وسداد طريقته كان غيره أولى به.

ومن هذا الضرب قوله تعالى: ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا

فإنه لم يراع التقابل في قوله ليسكنوا فيه ومبصرا؛ لأن القياس يقتضي أن يكون والنهار لتبصروا فيه، وإنما هو مراعى من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ، وهذا النظم المطبوع غير المتكلف؛ لأن معنى قوله مبصرا لتبصروا فيه طرق التقلّب في الحاجات.

واعلم أن في تقابل المعاني بابا عجيب الأمر، يحتاج إلى فضل تأمل، وزيادة نظر، وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور، وبالأعجاز من الأبيات الشعرية.

فما جاء من ذلك قوله تعالى في ذم المنافقين: وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون

وقوله تعالى وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون

ألا ترى كيف فصل الآية الأخرى بيعلمون والآية التي قبلها بيشعرون، وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك، وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدّي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيويّ مبني على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب وما كان فيهم من التحارب والتغاور، وفهو كالمحسوس عندهم، فلذلك قال فيه لا يشعرون

وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا فقال لا يعلمون.

وآيات القرآن جميعها فصلت هكذا، كقوله تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير

وكقوله:

<<  <  ج: ص:  >  >>