للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قم فاجلس مع خصمك، فتناظرا، وانصرف الرجل، ورجع عليّ إلى مجلسه، فتبين لعمر التغير في وجه عليّ، فقال يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا، أكرهت ما كان؟

قال: نعم. قال: وما ذاك؟ قال: كنيتني بحضرة خصمي.

هلا قلت يا علي قم، فاجلس مع خصمك، فأخذ عمر برأس علي رضي الله عنهما، فقبله بين عينيه، ثم قال بأبي أنتم بكم هدانا الله وبكم أخرجنا من الظلمات إلى النور.

وعن أبي حنيفة رضي الله عنه: القاضي كالغريق في البحر الأخضر «١» إلى متى يسبح وإن كان سابحا. وأراد عمر بن هبيرة أن يولي أبا حنيفة القضاء، فأبى، فحلف ليضربنه بالسياط، وليسجننه، فضربه حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب، فقال: الضرب بالسياط في الدنيا أهون عليّ من الضرب بمقامع الحديد في الآخرة.

وعن عبد الملك بن عمير عن رجل من أهل اليمن قال:

أقبل سيل باليمن في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكتب إلينا، لا تحركوه حتى يقدم إليكم كتابي، ثم فتح، فإذا برجل على سرير عليه سبعون حلة منسوجة بالذهب وفي يده اليمنى لوح مكتوب فيه هذان البيتان:

إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء «٢»

فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء

وإذا عند رأسه سيف أشد خضرة من البقلة مكتوب عليه هذا سيف عاد بن إرم.

عن ابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار برىء الله منه ولزمه الشيطان.

وقال محمد بن حريث: بلغني أن نصر بن علي راودوه على القضاء بالبصرة، واجتمع الناس إليه فكان لا يجيبهم فلما ألحوا عليه دخل بيته ونام على ظهره وألقى ملاءة على وجهه وقال: اللهم إن كنت تعلم أني لهذا الأمر كاره فاقبضني إليك، فقبض.

وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم القضاة جسور للناس يمرون على ظهورهم يوم القيامة.

وقال حفص بن غياث لرجل كان يسأله عن مسائل القضاء: لعلك تريد أن تكون قاضيا، لأن يدخل الرجل أصبعه في عينيه فيقلعهما ويرمي بهما خير له من أن يكون قاضيا.

وقيل أول من أظهر الجور من القضاة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، كان أمير البصرة وقاضيا فيها وكان يقول إن الرجلين يتقدمان إلي فأجد أحدهما أخف على قلبي من الآخر فأقضي له.

وتقدم المأمون بين يدي القاضي يحيى بن أكثم مع رجل ادعى عليه بثلاثين ألف دينار، فطرح للمأمون مصلّى يجلس عليه فقال له يحيى: لا تأخذ على خصمك شرف المجلس، ولم يكن للرجل بينة، فأراد أن يحلف المأمون فدفع إليه المأمون ثلاثين ألف دينار وقال: والله ما دفعت لك هذا المال إلا خشية أن تقول العامة أني تناولتك من جهة القدرة ثم أمر ليحيى بمال وأجزل عطاءه.

وقدم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله إلى أبي يوسف بن يعقوب في حكم فارتفع الخادم على خصمه في المجلس فزجره الحاجب عن ذلك فلم يقبل، فقال أبو يوسف: قم، أتؤمر أن تقف بمساواة خصمك في المجلس فتمتنع، يا غلام ائتني بعمرو بن أبي عمرو النخّاس «٣» فإنه إن قدم عليّ الساعة أمرته ببيع هذا العبد وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين، ثم إن الحاجب أخذ بيده حتى أوقفه بمساواة خصمه فلما انقضى الحكم رجع الخادم إلى المعتضد وبكى بين يديه وأخبره بالقصة، فقال له: لو باعك لأجزت بيعه ولم أردك إلى ملكي، فليست منزلتك عندي تزن رتبة المساواة بين الخصمين في الحكم فإن ذلك عمود السلطان وقوام الأديان. والله تعالى أعلم.

وقال العكلي يمدح بعض القضاة:

رفضت وعطلت الحكومة قبله ... في آخرين وملّها روّاضها

حتى إذا ما قام ألّف بينها ... بالحق حتى جمّعت أوفاضها «٤»

وفي ضد ذلك قول بعضهم:

أبكي وأندب ملّة الإسلام ... إذ صرت تقعد مقعد الحكّام

إنّ الحوادث ما علمت كبيرة ... وأراك بعض حوادث الأيام

<<  <   >  >>