للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى تورمت قدماه، فقيل له:

يا رسول الله: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا لله شكورا.

وقال أبو هارون: دخلت على أبي حازم، فقلت له:

يرحمك الله ما شكر العينين: قال: إذا رأيت بهما خيرا ذكرته، وإذا رأيت بهما شرا سترته، قلت: فما شكر الأذنين؟ قال: إذا سمعت بهما خيرا حفظته، وإذا سمعت بهما شرا نسيته.

وفي حكمة إدريس عليه الصلاة والسلام: لن يستطيع أحد أن يشكر الله على نعمة بمثل الإنعام على خلقه ليكون صانعا إلى الخلق مثل ما صنع الخالق إليه، فإذا أردت أن تحرس دوام النعمة من الله تعالى عليك، فأدم مواساة الفقراء. وقد وعد الله تعالى عباده بالزيادة على الشكر، فقال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ

«١» . وقد جعل لعباده علامة يعرف بها الشاكر، فمن لم يظهر عليه المزيد علمنا أنه لم يشكر، فإذا رأينا الغني يشكر الله تعالى بلسانه، وماله في نقصان علمنا أنه قد أخلّ بالشكر، إما أنه لا يزكي ماله أو يزكيه لغير أهله، أو يؤخره عن وقته، أو يمنع حقا واجبا عليه من كسوة عريان، أو إطعام جائع أو شبه ذلك، فيدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو صدق السائل ما أفلح من رده» .

قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ

«٢» . وإذا غيروا ما بهم من الطاعات غيّر الله ما بهم من الإحسان.

وقال بعض الحكماء من أعطي أربعا لم يمنع من أربع، من أعطي الشكر لا يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لا يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب.

وقال المغيرة بن شعبة: أشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك، فإنه لا بقاء للنعم إذا كفرت، ولا زوال لها إذا شكرت.

وكان الحسن يقول: ابن آدم متى تنفك «٣» من شكر النعمة وأنت مرتهن بها «٤» ، كلما شكرت نعمة تجد ذلك بالشكر أعظم منها عليك، فأنت لا تنفك بالشكر من نعمة إلا إلى ما هو أعظم منها «٥» .

وروي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعي إلى أقوام ليأخذهم على ريبة، فافترقوا قبل أن يأخذهم عثمان، فأعتق رقبة شكرا لله تعالى إذ لم يجر على يديه فضيحة مسلم.

ويروى أن نملة قالت لسليمان بن داود عليهما السلام:

يا نبي الله أنا على قدري أشكر لله منك، وكان راكبا على فرس ذلول «٦» فخرّ ساجدا لله تعالى، ثم قال: لولا أني أبجلك لسألتك عن أن تنزع مني ما أعطيتني.

وقال صدقة بن يسار: بينما داود عليه السلام في محرابه إذ مرت به دودة، فتفكر في خلقها، وقال: ما يعبأ الله بخلق هذه، فأنطقها الله تعالى له، فقال له: يا داود تعجبك نفسك، وأنا على قدر ما آتاني الله تعالى أذكر لله وأشكر له منك على ما آتاك.

وقال علي رضي الله عنه: احذروا إنفار النعم «٧» فما كل شارد مردود. وعنه عليه السلام: إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا اتصالها بقلة الشكر. وقيل: إذا قصرت يداك عن المكافأة، فليطل لسانك بالشكر. وقال حكيم:

الشكر ثلاث منازل: ضمير القلب، ونشر اللسان «٨» ومكافأة اليد. قال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا

وقال ابن عائشة: كان يقال ما أنعم الله على عبد نعمة، فظلم بها إلا كان له حقا على الله تعالى أن يزيلها عنه، وأنشد أبو العباس بن عمارة في المعنى:

أعارك ماله لتقوم فيه ... بواجبه وتقضي بعض حقه

فلم تقصد لطاعته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه

وقال آخر:

ولو أنّ لي في كل منبت شعرة ... لسانا يطيل الشكر كنت مقصّرا

<<  <   >  >>