للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة

ويقال: فلان أكذب من لمعان السراب، ومن سحاب تمّوز «١» وكان بفارس محتسب يعرف بجراب الكذب، وكان يقول: إن منعت الكذب انشقت مرارتي، وإني والله لأجد به مع ما يلحقني من عاره من المسرة ما لا أجده بالصدق مع ما ينالني من نفعه. وقال فيلسوف: من عرف من نفسه الكذب لم يصدّق الصادق فيما يقوله.

ولبعضهم:

حسب الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه

فمتى سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه

وأضاف «٢» صيرفي قوما، فأقبل يحدثهم، فقال بعضهم: نحن كما قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ

«٣» .

وعن عبد الله بن السدي قال: قلت لابن المبارك حدثنا حديثا، قال: ارجعوا، فلست أحدثكم، فقيل له: إنك لم تحلف، فقال: لو حلفت لكفّرت وحدثتكم، ولكن لست أكذب، فكان هذا أحب إلينا من الحديث.

وقال مجاهد: يكتب على ابن آدم كل شيء حتى أنينه في سقمه، وحتى أن الصبي ليبكي، فتقول له أمه: أسكت وأشتري لك كذا، ثم لا تفعل، فتكتب كذبة.

وقال الفضيل: ما من مضغة «٤» أحب إلى الله تعالى من اللسان إذا كان صدوقا، ولا مضغة أبغض إلى الله تعالى من اللسان إذا كان كذوبا. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «أعظم الخطايا اللسان الكذوب» .

قال الشاعر:

لا يكذب المرء إلّا من مهانته ... أو فعله السوء أو من قلّة الأدب

لبعض جيفة كلب خير رائحة ... من كذبة المرء في جد وفي لعب

ولما نصب معاوية رضي الله تعالى عنه ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء وجعل الناس يسلمون على معاوية، ثم يسلمون على يزيد، حتى جاء رجل، ففعل ذلك، ثم رجع إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين اعلم إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف ساكت، فقال معاوية: مالك لا تقول يا أبا بحر؟ فقال:

أخاف الله تعالى إن كذبت وأخافكم إن صدقت. فقال جزاك الله خيرا عما تقول، ثم أمر له بألوف، فلما خرج الأحنف لقيه ذلك الرجل بالباب، فقال له: يا أبا بحر إني لأعلم أن هذا من شرار خلق الله تعالى، ولكنهم استوثقوا من الأموال بالأبواب، والأقفال، فلسنا نطمع في إخراجها إلا بما سمعت، فقال له الأحنف: يا هذا أمسك، فإن ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها.

وقيل: إن الكذب يحمد إذا وصل بين المتقاطعين أو أصلح بين الزوجين، ويذم الصدق إذا كان غيبة. وقد رفع الحرج عن الكاذب في الحرب، وعن المصلح بين المرء وزوجه. وكان المهلب في حرب الخوارج يكذب لأصحابه يقوي بذلك جأشهم، فكانوا إذا رأوه مقبلا إليهم، قالوا: جاءنا بكذب.

وقال يحيى بن خالد: رأينا شارب خمر نزع ولصا أقلع وصاحب فواحش رجع، ولم نر كذابا صار صادقا. وكان عمر بن معد يكرب مشهورا بالكذب. وقيل لخلف الأحمر وكان شديد التعصب لليمن: أكان ابن معد يكرب يكذب؟ فقال: كان يكذب في المقال، ويصدق في الفعال. قيل: إن بلالا لم يكذب مذ أسلم رضي الله تعالى عنه، والحمد لله وحده.

[الباب الخامس والاربعون في بر الوالدين وذم العقوق وذكر الأولاد وما يجب لهم وعليهم وصلة الرحم والقرابات وذكر الأنساب]

وفيه فصول

[الفصل الأول في بر الوالدين وذم العقوق]

قال الله تعالى:

<<  <   >  >>