للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقيل لرجل: هل فيكم حائك؟ قال: لا. قيل: فمن ينسج لكم ثيابكم؟ قال: كلّ منا ينسج لنفسه في بيته.

وكان أردشير بن بابك لا يرتضي لمنادمته ذا صناعة رديئة كحائك وحجام، ولو كان يعلم الغيب مثلا. وقال كعب: لا تستشيروا الحاكة، فإن الله تعالى سلب عقولهم ونزع البركة من كسبهم، لأن مريم عليها السلام مرت بجماعة من الحياكين، فسألتهم عن الطريق فدلوها على غير الطريق، فقالت: نزع الله البركة من كسبكم.

وقال أبو العتاهية:

ألا إنّما التقوى هي العز والكرم ... وحبّك للدنيا هو الذل والسقم

وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا صحّح التقوى وإن حاك أو حجم

وهذا ما أردناه سياقة في هذا الباب. والله الموفق للصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

[الباب السادس والخمسون في شكوى الزمان وانقلابه بأهله والصبر على المكاره والتسلي عن نوائب الدهر]

وفيه ثلاثة فصول

[الفصل الأول في شكوى الزمان وانقلابه بأهله]

روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم. وكان معاوية رضي الله تعالى عنه يقول: معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان لم يأت.

وكانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي فسبقها، فشق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه» . وحكي عن شيخ من همدان قال: بعثني أهلي في الجاهلية إلى ذي الكلاع الحميري بهدايا، فمكثت شهرا لا أصل إليه، ثم بعد ذلك أشرف أشرافة من كوة، فخرّ له من حول القصر سجدا، ثم رأيته من بعد ذلك وقد هاجر إلى حمص واشترى بدرهم لحما، وسمطه خلف دابته وهو القائل هذه الأبيات:

أف للدنيا إذا كانت كذا ... أنا منها في بلاء وأذى

إن صفا عيش امرىء في صبحها ... جرعته ممسيا كأس الردى

ولقد كنت إذا ما قيل من ... أنعم العالم عيشا قيل ذا

وقال يونس بن ميسرة: لا يأتي علينا زمان إلا بكينا منه ولا يتولى عنا زمان إلا بكينا عليه. ومن ذلك قوله:

ربّ يوم بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه

ومثله:

وما مرّ يوم أرتجي فيه راحة ... فأخبره إلّا بكيت على أمسي

ومن كلام ابن الأعرابي:

عن الأيام عدّ فعن قليل ... ترى الأيام في صور الليالي

وقال رضي الله عنه: ما قال الناس لشيء طوبى إلا وقد خبأ له الدهر يوم سوء.

قال الشاعر:

فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعهد

ودخل داود عليه الصلاة والسلام غارا، فوجد فيه رجلا ميتا وعند رأسه لوح مكتوب فيه، أنا فلان ابن فلان الملك عشت ألف عام، وبنيت ألف مدينة، وافتضضت ألف بكر، وهزمت ألف جيش، ثم صار أمري إلى أن بعثت زنبيلا من الدراهم في رغيف فلم يوجد، ثم بعثت زنبيلا من الجواهر فلم يوجد، فدققت الجواهر واستفيتها فمت مكاني، فمن أصبح وله رغيف وهو يحسب أن على وجه الأرض أغنى منه أماته الله كإماتتي.

وذكر أن عبد الرحمن بن زياد لما ولي خراسان حاز من الأموال ما قدر لنفسه أنه إن عاش مائة سنة ينفق في كل يوم

<<  <   >  >>