للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أحاط علمه بما ذرأ وبرأ وأنت عالم بخفيات الأمور ومحصي وساوس الصدور، وأنت بالمنزل الأعلى، وعلمك محيط بالمنزل الأدنى، تعاليت علوا كبيرا، يا مغيث أغثني، وفكّ أسري، واكشف ضري، فقد نفذ صبري، فقمت وتوضأت في الحال وصليت ركعتين وتلوت ما سمعته منه، ولم تختلف عليّ منه كلمة واحدة، فما تم القول حتى سقط القيد من رجلي ونظرت إلى أبواب السجن فرأيتها قد فتحت. فقمت، فخرجت ولم يعارضني أحد، فأنا والله طليق الرحمن، وأعقبني الله بصبري فرجا، وجعل لي من ذلك الضيق مخرجا، ثم ودعني وانصرف يقصد الحجاز.

وفيما يروى عن الله تعالى أنه أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام، يا داود من صبر علينا وصل إلينا.

وقال بعض الرواة: دخلت مدينة يقال لها: دقار، فبينما أنا أطوف في خرابها إذا رأيت مكتوبا بباب قصر خرب بماء الذهب واللازورد هذه الأبيات:

يا من ألحّ عليه الهمّ والفكر ... وغيّرت حاله الأيام والغير «١»

أما سمعت لما قد قيل في مثل ... عند الاياس فأين الله والقدر «٢»

ثمّ الخطوب إذا أحداثها طرقت ... فاصبر فقد فاز أقوام بما صبروا «٣»

وكلّ ضيق سيأتي بعده سعة ... وكلّ فوت وشيك بعده الظفر

ولما حبس أبو أيوب في السجن خمس عشرة سنة ضاقت حيلته، وقلّ صبره، فكتب إلى بعض إخوانه يشكو إليه طول حبسه وقلة صبره، فرد عليه جواب رقعته يقول:

صبرا أبا أيوب صبر مبرّح ... وإذا عجزت عن الخطوب فمن لها

إنّ الذي عقد الذي انعقدت به ... عقد المكاره فيك يملك حلّها

صبرا فإن الصبر يعقب راحة ... ولعلّها أن تنجلي ولعلّها

فأجابه أبو أيوب يقول:

صبّرتني ووعظتني وأنا لها ... وستنجلي بل لا أقول لعلّها

ويحلّها من كان صاحب عقدها ... كرما به إذ كان يملك حلّها

فما لبث بعد ذلك أياما حتى أطلق مكرما:

وأنشدوا:

إذا ابتليت فثق بالله وارض به ... إنّ الذي يكشف البلوى هو الله

اليأس يقطع أحيانا بصاحبه ... لا تيأسنّ فإنّ الصانع الله

إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ... فما ترى حيلة فيما قضى الله

[الفصل الثالث من هذا الباب في التأسي في الشدة والتسلي عن نوائب الدهر]

قال الثوري رحمه الله تعالى: لم يفقه عندنا من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة. وقيل: الهموم التي تعرض للقلوب كفارات للذنوب. وسمع حكيم رجلا يقول لآخر: لا أراك الله مكروها، فقال: كأنك دعوت عليه بالموت، فإن صاحب الدنيا لا بد أن يرى مكروها. وتقول العرب: ويل أهون من ويلين.

وقال ابن عيينة: الدنيا كلها غموم، فما كان فيها من سرور فهو ربح. وقال العتبي: إذا تناهى الغم إنقطع الدمع بدليل أنك لا ترى مضروبا بالسياط ولا مقدما لضرب العنق يبكي.

وقيل: تزوج مغنّ بنائحة فسمعها تقول: اللهم أوسع لنا في الرزق، فقال لها: يا هذه إنما الدنيا فرح وحزن وقد أخذنا بطرفي ذلك، فإن كان فرح دعوني، وإن كان حزن دعوك.

وقال وهب بن منبه: إذا سلك بك طريق البلاء سلك بك طريق الأنبياء. وقال مطرف: ما نزل بي مكروه قط فاستعظمته إلا ذكرت ذنوبي فاستصغرته. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يرفعه: «يود أهل العافية يوم القيامة أن لحومهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله تعالى لأهل البلاء» . وروى أبو عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه.

<<  <   >  >>