للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لي بمائتي ألف درهم وأمر لي يزيد بمائة وتسعين ألف درهم وقال: ما ينبغي لي أن اساوي أمير المؤمنين في العطاء فانظر إلى هذا التيسير الجسيم بعد العسر العظيم.

وما أحسن ما قيل:

الأمن والخوف أيام مداولة ... بين الانام وبعد الضيق تتسع

ولما وجه سليمان بن عبد الملك محمد بن يزيد إلى العراق ليطلق أهل السجون ويقسم الأموال، ضيق على يزيد بن أبي مسلم فلما ولي يزيد بن عبد الملك الخلافة ولي يزيد بن أبي مسلم أفريقية، وكان محمد بن يزيد واليا عليها فاستخفى محمد بن يزيد فطلبه يزيد بن أبي مسلم وشدّد في طلبه فأتي به إليه في شهر رمضان عند المغرب وكان في يد يزيد بن أبي مسلم عنقود عنب فقال لمحمد بن يزيد حين رآه: يا محمد بن يزيد، قال: نعم، قال: طالما سألت الله أن يمكنني منك، فقال: وأنا والله طالما سألت الله أن يجيرني منك، فقال: والله ما أجارك ولا أعانك، وإن سبقني ملك الموت إلى قبض روحك سبقته، والله لا آكل هذه الحبة العنب حتى أقتلك. ثم أمر به فكتف ووضع في النطع وقام السياف فأقيمت الصلاة، فوضع العنقود من يده وتقدم ليصلي، وكان أهل أفريقية قد أجمعوا على قتله فلما رفع رأسه ضربه رجل بعمود على رأسه فقتله، وقيل لمحمد بن يزيد: اذهب حيث شئت فسبحان من قتل الأمير وفك الأسير.

قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول أطلق القاتل، فارتعت لذلك ودعوت بالشموع ونظرت في أوراق السجن وإذا ورقة إنسان ادّعي عليه بالقتل وأقرّ به، فأمرت بإحضاره فلما رأيته وقد ارتاع فقلت له: إن صدقتني أطلقتك، فحدثني أنه كان هو وجماعة من أصحابه يرتكبون كل عظيمة، وأن عجوزا جاءت لهم بامرأة فلمّا صارت عندهم صاحت الله الله وغشي عليها، فلما أفاقت قالت: أنشدك الله في أمري فإن هذه العجوزة غرتني وقالت إن في هذه الدار نساء صالحات وأنا شريفة، جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي فاحفظوهم فيّ، فقمت دونها وناضلت عنها فاشتد عليّ واحد من الجماعة، وقال لا بد منها وقاتلني فقتلته، وخلصت الجارية من يده، فقالت:

سترك الله كما سترتني وسمع الجيران الصيحة فدخلوا علينا فوجدوا الرجل مقتولا والسكين بيدي فأمسكوني وأتوا بي إليك وهذا أمري، فقال إسحاق: قد وهبتك لله ولرسوله فقال: وحق اللذين وهبتني لهما لا أعود إلى معصية أبدا.

وأمر الحجاج بإحضار رجل من السجن فلما حضر أمر بضرب عنقه فقال: أيها الأمير أخرني إلى غد، قال وأي فرج لك في تأخير يوم واحد؟ ثم أمر برده إلى السجن فسمعه الحجاج في السجن يقول:

عسى فرج يأتي به الله إنّه ... له كلّ يوم في خليقته أمر

فقال الحجاج: والله ما أخذه إلا من كتاب الله وهو قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ

«١» وأمر بإطلاقه.

وقال بعض جلساء المعتمد، كنا بين يديه ليلة فخفق رأسه بالنعاس فقال: لا تبرحوا، حتى أغفى سويعة، فغفا ساعة ثم أفاق جزعا مرعوبا وقال: امضوا إلى السجن وائتوني بمنصور الجمال، فجاءوا به فقال له: كم لك في السجن؟ قال: سنة ونصف، قال: على ماذا؟ قال: أنا جمال من أهل الموصل وضاق عليّ الكسب ببلدي فأخذت جملي وتوجهت إلى بلد غير بلدي لأعمل عليه فوجدت جماعة من الجند قد ظفروا بقوم غير مستقيمي الحال وهم مقدار عشرة أنفس وجدوهم يقطعون الطريق فدفع واحد منهم شيئا للأعوان فأطلقوه وأمسكوني عوضه وأخذوا جملي فناشدتهم الله فأبوا وسجنت أنا والقوم، فأطلق بعضهم ومات بعضهم وبقيت أنا فدفع له المعتمد خمسمائة دينار وأجرى له ثلاثين دينارا في كل شهر وقال:

اجعلوه على جمالنا، ثم قال: أتدرون ما سبب فعلي هذا؟

قلنا: لا. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أطلق منصورا الجمال من السجن وأحسن إليه.

وأخذ الطاعون أهل بيت فسدّ بابه، ففضل فيه طفل يرضع لم يشعر به أحد ففتح الباب بعد شهر فوجدوا الطفل قد عطف الله عليه كلبة ترضعه مع جرو لها، فسبحان القادر على كل شيء لا إله غيره ولا معبود سواه.

قال الشاعر:

إذا تضايق أمر فانتظر فرجا ... فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج

وقال آخر:

فلا تجزعن إن أظلم الدهر مرّة ... فإنّ اعتكار الليل يؤذن بالفجر

<<  <   >  >>