للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والله، ولقد أسلمت، وما جئت إلا مسلما لآخذ مالي خوفا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاثة، فاظهر أمرك فهو والله على ما تحب، قال: فلما كان في اليوم الرابع لبس العباس حلة له وتخلق بالطيب، وأخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى الكعبة، فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله هو التجلد لحر المصيبة، قال: كلا والذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيهم، فأصبحت له ولأصحابه، قالوا:

من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله وانطلق ليلحق محمدا وأصحابه ليكون معهم. قالوا: تفلت عدو الله أما والله لو علمنا به لكان لنا وله شأن. قال: ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك، فتوصل الحجاج بفطنته واحتياله إلى تخليصه وتحصيل ماله.

ولما اجتمعت الأحزاب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق، وقصدوا المدينة، وتظاهروا وهم في جمع كثير وجم غفير من قريش وغطفان، وقبائل العرب وبني النضير، وبني قريظة من اليهود، ونازلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، واشتد الأمر، واضطرب المسلمون، وعظم الخوف على ما وصفه الله تعالى في قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ١٠ هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً ١١

«١» . فجاء نعيم بن مسعود بن عامر الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال له رسول الله: خذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان نديما لهم في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة: قد علمتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم. قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، فإن البلد بلدكم وبه أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه وأموالهم، وأولادهم ونساؤهم بغير بلدكم، وليسوا مثلكم لأنهم إن رأوا فرصة اغتنموها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديهم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا، قالوا: أشرت بالرأي، ثم أتى قريشا، فقال لأبي سفيان بن حرب: وكان إذ ذاك قائد المشركين من قريش ومن معه من كبراء قريش: قد علمتم ودي لكم، وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر وأحببت أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموه عليّ. قالوا: نعم، قال: اعلموا أن معشر يهود بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه يقولون: إنّا قد ندمنا على نقض العهد الذي بيننا وبينك، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم، فنسلمهم إليك، فتضرب رقابهم، ثم نكون معك على من بقي منهم، فنستأصلهم، فأرسل يقول نعم. فإن بعث إليكم يهود بني قريظة يلتمسون منكم رهائن من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا، ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم، فلما كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان رءوس بني غطفان إلى بني قريظة يقولون لهم: إنّا لسنا بدار مقام، وقد هلك الخف والحافر، فاعتدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ فيما بيننا وبينه، فأرسلوا يقولون لهم: إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنّا نخشى إن دهمتكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجال في بلدنا ولا طاقة لنا به، فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة يقولون: إنّا لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا وقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل: إن الكلام الذي ذكره نعيم بن مسعود لحق، وما يريد القوم إلا أن تقاتلوا، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك شمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنّا لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، فخذل الله تعالى بينهم، وأرسل عليهم الريح، فتفرقوا وارتحلوا. وكان هذا من لطف الله تعالى أن ألهم نعيم بن مسعود هذه الفتنة وهداه إلى اليقظة التي عمّ نفعها وحسن وقعها.

[وأما ما جاء في التيقظ والتبصر في الأمور:]

فقد قالت الحكماء: من أيقظ نفسه وألبسها لباس

<<  <   >  >>