للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: وقد ولّاه أمير المؤمنين مصر. فانصرف عبد الملك بن صالح وبقيت متعجبا من إقدام جعفر على ذلك من غير استئذان وقلت:

عسى أن يجيبه أمير المؤمنين إلى ما سأله من الولاية والمال والرضا إلا المصاهرة قال: فلما كان من الغد بكرت إلى باب الرشيد لأنظر ما يكون من أمرهم، فدخل جعفر فلم يلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ثم بابراهيم بن عبد الملك بن صالح فخرج إبراهيم وقد عقد نكاحه بالغالية بنت الرشيد، وعقد له على مصر الرايات والألوية تخفق على رأسه وخرج كل من في القصر معه إلى بيت عبد الملك بن صالح قال: ثم بعد ذلك خرج إلينا جعفر وقال: أظن أن قلوبكم تعلقت بحديث عبد الملك بن صالح وأحببتم سماع ذلك. قلنا هو كما ظننت.

قال: لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه قال: كيف كان يومك يا جعفر بالأمس؟ فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح فكان متكئا فاستوى جالسا، وقال: لله أبوك ما سألك؟ قلت:

سألني رضاك عنه يا أمير المؤمنين، قال: بم أجبته؟ قلت:

قد رضي عنك أمير المؤمنين. قال: قد رضيت عنه، ثم ماذا قلت، وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار. قال: فبم أجبته؟

قلت قد قضاها عنك أمير المؤمنين. قال: وقد قضيتها عنه، ثم ماذا قلت، ورغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بمصاهرة منه قال: فبم أجبته؟ قلت: قد زوّجه أمير المؤمنين بابنته الغالية. قال: قد أجبته إلى ذلك. ثمّ ماذا قلت؟ قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه. قال: فبم أجبته؟ قلت: قد ولاه أمير المؤمنين مصر. قال: قد وليته إياها، ثم نجز له جميع ذلك من ساعته.

قال إبراهيم بن المهدي: فو الله ما أدري أي الثلاثة أكرم وأعجب فعلا ما ابتدأه عبد الملك بن صالح من المنادمة ولم يكن فعل ذلك قط أم إقدام جعفر على الرشيد أم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر، فهكذا تكون مكارم الأخلاق.

وحكى أبو العباس عن عمر الرازي قال: أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في جمد من الأرض، فسمعت غناء لم أسمع مثله، فقلت: والله لأتوصلن إليه، فإذا هو عبد أسود، فقلت له: أعد عليّ ما سمعت فقال: والله لو كان عند قرى أقريكه لفعلت، ولكني أجعله قراك، فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، أو عطشان فأروى، ثم اندفع يغني ويقول:

وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها

من الخفرات البيض ودّ جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

قال عمر: فحفظته منه، ثم تغنيت به على الحالات التي وصفها إليّ فإذا هي كما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الباب السبعون في ذكر القينات والأغاني

حكى علي بن الجهم قال: لما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المتوكل أهدى إليه عبد الله بن طاهر من خراسان جارية يقال لها محبوبة كانت قد نشأت بالطائف فبرعت في الجمال والأدب وأجادت قول الشعر، وحذاقة الغناء، فشغف بها أمير المؤمنين المتوكل حتى كانت لا تفارق مجلسه ساعة واحدة، ثم أنه حصل منه عليها بعد ذلك جفاء، فهجرها.

قال علي بن الجهم، فبينما أنا نائم عنده ذات ليلة إذ أيقظني، فقال: يا علي، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: قد رأيت الليلة في منامي كأني رضيت على محبوبة وصالحتها، فقلت: خيرا رأيت يا أمير المؤمنين أقرّ الله عينك إنما هي جاريتك والرضا والجفاء بيدك، فوالله إنا لفي حديثها إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال: قم بنا يا علي ننظر ما تصنع، فنهضنا حتى أتينا حجرتها فإذا هي تضرب بالعود وتقول:

أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلّمني

كأنّني قد أتيت معصية ... ليس لها توبة تخلّصني

فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني

حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره وصارمني «١»

<<  <   >  >>