للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين; فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ١ الآية. فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم٢.

"وقوله: "وأن محمدا عبده ورسوله" أي وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى "العبد" هنا المملوك العابد، أي أنه مملوك لله تعالى. والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} ٣ فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلي الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين. وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقوله: "عبده ورسوله" أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط، فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلا، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع اطراحها؛ فإن شهادة أن محمدا رسول الله تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، الانتهاء عما عنه نهى وزجر; وأن يعظم أمره ونهيه،


١ سورة العنكبوت آية: ٦٥.
٢ في قرة العيون: "قلت" وهؤلاء المتأخرون جهلوا معنى الإله، وقلبوا حقيقة المعنى إلى معنى توحيد الربوبية، وهو القدرة على الاختراع فأثبتوا ما نفته (لا إله إلا الله) من الشرك وأنكروا ما أثبتته من إخلاص العبادة لله جهلا منهم، وقد قال تعالى: ٣٩: ٢ فاعبد الله مخلصا له الدين. قال محيي الدين النووي: اعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع من أزمان متطاولة، ولم يبق في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم , به قوام الأمر وملاكه, وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح. وقوله في هذه الأزمان يعني القرن الخامس والسادس, وإذا كان كذلك فما الظن بالقرن العاشر وما بعده وقد استحكمت فيها الغربة. ولشيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الكلمة كلام بديع واضح لم يسبق إلى مثله فليراجع لمسيس الحاجة إليه.
٣ سورة الزمر آية: ٣٦.

<<  <   >  >>