للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقرك من الخير مشوب بالكسل، ومتى كان الفقير كسلان فلا وجه للغنى، لو كانت لك أنفة من التواني لخرجت من ربقة الذل، بعت قيام الليل بفضل لقمة، شربت كأس النعاس ففاتتك رفقة (تَتَجافَى جُنُوبُهُم) امتلأت طعاما فإذا غريم الفراش يتقاضاك بدين النوم، فضرب على أذنك لا في موافقة أهل الكهف، تناولت خمر الرقاد فوقع بك صاحب الشرطة فعمل في حقك بمقتضى أنم وأرقم، فجعل حدك الحبس عن قيام الليل، فخرج على توقيع قصتك وقت الفجر (رَضوا بِأَن يَكونُوا مَعَ الخوالِف) .

والله لو بعت لحظة من خلوة بنا بتعمير " نوح " في ملك " قارون " لغبنت، لا بل بما في الجنان كلها ما ربحت، ومن ذاق عرف.

[الفصل الثامن عشر]

[أعمال الملائكة]

خلقت الملائكة من نور لا ظلمة فيه، وخلقت الشياطين من ظلمة لا نور فيها، وركب البشر من الضدين، فظلام نفسه مقترن بنور عقله، بينهما حاجز لطيف، لا تعلمه إلا بالمجاهدة، كما أن بين الشمس والظل خط لا يراه إلا المهندس، فالملل يسبح لأنه صاف، والشيطان يعصي لأنه كدر، وإنما العجب تقوى من تقوى في حقه الأضداد.

الآدمي عقل وهوى غير أن بين الهوى والهدى برزخ من التوفيق، لولا لطائف الإعانة قلع سكر التماسك، ولم تطق البشرية المدافعة، لولا لاحقة (لَنَهدِيَنّهُم) لسابقة (سَبَقَت لَهُم) .

فالصبر الصبر أيها المحارب، ولا تخف من كمين (وَاستَفزِز) ما دام لك مدد (يُثَبِتُ اللَهُ الَّذَينَ آَمَنوا) هبت عواصف التكليف البشري فلم يتماسك " هاروت " و " ماروت " فرمى بهما رمي " عاد " وقال موافق (أَتَجعَلُ فيها) إن للحرب رجالا خلقوا، كانت الملائكة تدعو على العصاة قبل " هاروت " و " ماروت " فلما جرت قصتهم صاروا يسبحون لمن في الأرض، كما كان " داود " يقول: لا تغفر للخطائين، فلما زل عرف.

وَعَذَلتُ أَهلَ العِشقِ حَتى ذُقتُهُ ... فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ مِن لا يَعشَقُ

وَعَرَفتُهُم وَعَرَفتُ ذَنبي أَنَني ... عَيَّرتُهُم فَلَقَيتُ فيهِم ما لَقوا

خب بحر الأمانة فوقفت الملائكة على الساحل ونهضت عزيمة الآدمي لسلوك سبيل الخطر، والمحب لا يرى العواقب، ولسكران الوجد إقدام.

يَغلِبُني شَوقي فَأَطوين السُّرى ... وَلَم يَزَل ذو الشَوقِ مَغلوباً

أين مجاهدة الآدمي من تعبد الملائكة، حال الآدمي أعجب، تسبيح الملائكة يدور على ألسنتهم بالطبع، تعبدهم لا عن تعب، ورد شجرهم خال من شوك الحب، الأغلب على أوصافهم أنوثية السلامة، لا ذكورية الجهاد، سبح تسبيحهم عقود ما نظمها التكليف، ثمرات زرعهم نشأت لا عن كلف، ساقها سيح العصمة، فكثر في زكوات تبعدهم قدر الواجب (وَيَستَغفِرونَ لِمَ، في الأرض) ظنت الملائكة أن أيدي العصمة أصنع من نظم التسبيح، ونسوا أن يبس الأشجار أيام الشتاء سبب لزهر النور في الربيع.

[الفصل التاسع عشر]

[عزيمة الرجال]

العزائم في قلوب أربابها كالنار تشتعل، إنها لتستعمل البدن ولا تحس بالتعب.

يغلبني شوقي فأطوي السرى للعزائم رجال ليسوا في ثيابكم، وطنوا النفوس على الموت فحصلت الحياة.

لَو رَأَيتَ ذا العَزمِ قَد بَرَزَ في بُرازِ الجَدِيَمُدُ عِناناً لَم تُخنِةَ الشَكائِمُ

فلما عاين هولا يلين له قلب الجبان، حن إلى عوده المعجوم من الإصابة، فهو في صف الجهاد أثبت قلبا من القطب في الفلك، إن جن الليل لم تتصافح أجفانه، لا تنتظر لقيامه وقت السحر، وكيف وغلة الصادي تأبى له.

انتظارا لوراد، فما مضى إلا قَليلٌ فَإِذا بِهِ ... عَلى قِمَةِ المَجدِ المُؤَثًلِ جالِسُ

من لم يقم في طلاب المجد ... لم ينم في ظلال الشرف

تَقولُ سُلَيمى لَو أَقَمتَ بِأَرضِنا ... وَلَم تَدر أَني لِلمُقامِ أَطوفُ

كل الصحابة هاجروا سرا، و " عمر " خرج ظاهرا وقال للمشركين: ها أنا اخرج إلى الهجرة، فمن أراد لقائي فليلقني في بطن هذا الوادي.

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي مذ عزم " عمر " على طلاق الهوى أحد أهله عن زينة الدنيا، فكان بيته - وهو أمير المؤمنين - كبيت فقير من المسلمين.

تَجَمَعت في فُؤادِهِ هَمَمُ ... مِثلُ فُؤادِ الزَمانِ إِحداها

<<  <   >  >>