للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يا رابطا مناه بخيط الأمل، إنه ضعيف الفتل، لو فتحت عين التيقظ لرأيت حيطان العمر قد تهدمت، فبكيت على خراب دار الأمل، جسمك عندنا وقلبك على فراسخ، لا بالتسويف ترعوي، ولا بالتخويف تستوي، ضاعت مفاتيحي معك.

[الفصل الحادي عشر]

[الخوف من الله تعالى]

خوف السابقة وحذر الخاتمة قلقل قلوب العارفين، وزادهم إزعاجا (يَحولُ بَينَ المَرءِ وَقَلبِهِ) ليس لهم في الدنيا راحة، كلما دخلوا سكة من سك السكون أخرجهم الجزع إلى شارع من شوارع الخوف.

أَروحُ بِشجوٍ ثُمّ أَغدو بِمِثلِهِ ... وَتحسَبُ أَني في الثيابِ صَحيحُ

أعمار الأغمار وانتبهوا فانتبهبوا الليل والنهار، وأخرجوا أقوى العزائم إلى الأفعال، فلما قضوا ديون الجد، قضت علومهم بالحذر من الرد، حنوا فأنوا، وانزعجوا فما اطمأنوا، أنفاسهم لا تخفى، نفوسهم تكاد تطفأ، لون المحب غمار، دمع الشمون نمّام، من ضرورة دوران الدولاب أنينه.

أُخفي كَمَدَ الهَوى وَدَمعي ... في الخَدِ عَلى هواكَ شاهِدُ

فالجَفنُ مُقرٌ بِلوعَتي ... لِلعاذِلِ وَاللِسانُ جاحِدُ

تصادما في قلب العارف جبل الرجاء وجبل الخوف فلما وصل " اسكندر " الفكر، ألقى زبر الهموم حتى (ساوى بَينَ الصَدَفين) ثم صاح بجند الفهوم: (اِنفُخوا) فاستغاث الواجد لتراكم الكرب.

أَيا جَبَلَي نُعمانَ بِالله خَلِيا ... نَسيمَ الصِبا يُخلِص إِلى " نَسيمُها "

لا راحة للمحب في الدنيا، إن أحس بالحجاب بكى على البعد، وإن فتح له باب الوصل خاف الطر.

فَيَبكي إِن نَأَوا شَوقاً إِليهِمُ ... وَيَبكي إِن دَنَوا خَوفَ الفِراقِ

من لم يذق لم يعرف:

مَن لَم يَبُت وَالحُبُّ حَشوُ فُؤَادِهِ ... لِم يَدرِ كَيفَ تَفَتُّتُ الأَكبادِ

الفراق أظلم من الليل، الوجد احر من الجمر.

فَفي فُؤادِ المُحِبِ نارُ جَوىً ... أَحرُّ نارِ الجَحيمِ أَبرَدُها

فقد اشتد قلق الخوف " بابراهيم بن أدهم " فصاح: إلهي إن كنت أعطيت أحدا من المحبين ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني، فقد أضر بي القلق.

لَو شِئتَ داويتَ قَلباً أَنتَ مُسقِمُهُ ... وَفي يَديكِ مِنَ البَلوى سَلامَتُهُ

عَلامَةٌ كُتِبَتن في خَدِّ عارِفِكُم ... مَن كانَ مِثلي فَقَد قامَت قِيامَتُهُ

فرأى الحق جل جلاله في منامه وهو يقول: يا إبراهيم: ما استحييت مني؟؟ تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك؟ وهل يسكن قلب المشوق إلى غير حبيبه؟؟.

يا سائِقَ العَيسِ قَد بَراها ... حَملُ هُمُومٍ بِها عِظامُ

أشواقُها خَلفَها وَشَوقي ... خِلافَ أَشواقِها أَمامي

[الفصل الثاني عشر]

[ذو البجادين]

اللهم نور ظلمة دنيانا بضوء من توفيقك، واقطع أيامنا في طلب الإتصال بك، فإنك إذا أقبلت سلّمت، وإذا أعرضت أسلمت.

إخواني: إذا سبقت سابقة السعادة لشخص دلته على الدليل قبل الطلب (وَلَقَد اِختَرناهُم عَلى عِلمٍ عَلى العالمين) .

إِنّ المَقاديرَ إِذا ساعَدَت ... أَلحَقَت العاجِزَ بالحازِم

كان " ذو البجادين " يتيما في الصغر، فلما عمه الفقر كفله عمه، فنازعته نفسه في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهمب النهوض، فإذا بقية المرض مانعة، فقال لسان التسويف للنفس: قفي حتى يتقدم العم، فلما تكملت الصحة نفد حبر المشتاق، فقال: يا عم كنت أنتظر سلامتك بإسلامك، وما أرى زمن زمنك ينشط، فقال: والله لئن أسلمت لأنتزعن كل ما أعطيتك!! فصاح لسان عزمته: نظرة من محمد عليه الصلاة والسلام أحب إلي من الدنيا وما فيها.

هذا مذهب المحبين إجماعا من غير خلاف.

وَلَو قيلَ لِلمجَنونِ لَيلى وَوَصلِها ... تُريدُ أَم الدُنيا وَما في طواياها

لَقالَ غُبارٌ مِن تُرابِ دِيارِها ... أَحبُّ إِلى نَفسي وَأَشفى لِرؤياها

فعاد العم في هبته حتى جرده من الثياب، فناولته الأم بجادا لها، فقطعه نصفين، فاتزر بواحدة وارتدى بآخر، وخرج في حلة " دب أشعث أغبر ".

سُنَنَّة الأَحبابِ واحِدَةٌ ... فَإِذا أَحبَبتَ فاستَنِنِ

<<  <   >  >>