للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبُلْهُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ كَوْنِهِمْ فَطِنِينَ فِي أَحْوَالِ الْعُقْبَى، فَهُمْ مِنَ الْأَبْرَارِ عَكْسُ صِفَةِ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: سُمُّوا بُلْهًا حَيْثُ رَضُوا بِالْجَنَّةِ، وَلَمْ يَطْلُبُوا الزِّيَادَةَ قَالَ تَعَالَى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَالزِّيَادَةُ هِيَ اللِّقَاءُ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ) تَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِوَلَدِهَا هُوَ الصَّغِيرُ مِنْ أَوْلَادِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ) أَيْ: صَغُرَتْ أَوْ كَبُرَتْ، وَالْمَعْنَى مَا تَلِدُ جَمِيعًا (إِلَّا النُّوقَ) بِضَمِّ النُّونِ جَمْعُ النَّاقَةِ، وَهِيَ أُنْثَى الْإِبِلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْإِبِلِ وَلَدُ النَّاقَةِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَوْ تَدَبَّرْتَ فِي الْكَلَامِ لَعَرَفْتَ الْمَرَامَ، فَفِيهِ مَعَ الْمُبَاسَطَةِ لَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى إِرْشَادِهِ، وَإِرْشَادِ غَيْرِهِ ; بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ قَوْلًا أَنْ يَتَأَمَّلَهُ، وَلَا يُبَادِرَ إِلَى رَدِّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْرِكَ غَوْرَهُ.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا) هُوَ ابْنُ حَرَامٍ ضِدُّ حَلَالٍ الْأَشْجَعِيُّ شَهِدَ بَدْرًا (وَكَانَ يُهْدِي) عَلَى صِيغَةِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْإِهْدَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِالْهَدِيَّةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَةِ) أَيْ: حَاصِلُهُ مِنْهَا مِمَّا يُوجَدُ فِيهَا مِنَ الْأَزْهَارِ، وَالْأَثْمَارِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِهَا (فَيُجَهِّزُهُ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: يُعِدُّ وَيُهَيِّئُ لَهُ (النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْبَادِيَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبُلْدَانِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: زَاهِرٌ إِلَى وَطَنِهِ جَزَاءً وِفَاقًا (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا) أَيْ: نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَا يَسْتَفِيدُ الرَّجُلُ مِنْ بَادِيَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ بَادِيَتُهُ، وَقِيلَ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: سَاكِنُ بَادِيَتِنَا كَمَا حُقِّقَ (فِي وَسَائِلِ الْقُرْبَةِ) ، وَقِيلَ تَاؤُهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَيْدِينَا، وَالْبَادِي: هُوَ الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ (وَنَحْنُ) أَيْ: أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ أَوِ الْجَمْعُ لِلتَّعْظِيمِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ زَاهِرَ بْنَ حَرَامٍ (حَاضِرُوهُ) أَيْ: حَاضِرُوا الْمَدِينَةِ لَهُ، وَفِيهِ كَمَالُ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَالْمَعْنَى: وَنَحْنُ نُعِدُّ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَادِيَتِهِ مِنَ الْبَلَدِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ ذِكْرِ الْمُنْعِمِ بِإِنْعَامِهِ لِكَوْنِهِ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ فِي مُتَابَعَةِ هَذِهِ الْمُجَامَلَةِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُ) أَيْ: حُبًّا شَدِيدًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَهَادُوا تَحَابُّوا» ، وَالْجُمْلَةُ تَمْهِيدٌ، وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (وَكَانَ رَجُلًا) أَيْ: مِنْ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْآيَةَ (دَمِيمًا) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: قَبِيحَ الصُّورَةِ مَعَ كَوْنِهِ مَلِيحَ السِّيرَةِ.

فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُسْنِ الْبَاطِنِ، وَلِذَا وَرَدَ.

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ، وَأَعْمَالِكُمْ» ، (فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا) فَنِعْمَ الطَّالِبُ الَّذِي جَاءَ مَطْلُوبُهُ (وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِمَتَاعِهِ الظَّاهِرِيِّ وَذَاهِلٌ عَنِ النِّعْمَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>