للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُرَيْشٍ، وَرَئِيسَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ النَّاسُ يَدْعُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَيْضًا فَاشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بُشِّرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَظْهَرُ، وَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ لَمَّا أَخْبَرَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنٍ.

وَقِيلَ ; لِأَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا تَدُلُّ عَلَى ظُهُورِهِ وَكَمَالِ جَمَالِ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِجَمِيعِ ذَلِكَ. وَبِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ لِتَقْوَى نُفُوسُ الْمُؤَلَّفَةِ، وَنَحْوُهُمْ عَلَى رَجَاءِ الْإِعْلَاءِ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ قَوْلِ الْإِنْسَانِ أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ.

أَيْ: أَسَدًا وَقَوْلُ سَلَمَةَ:

أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ.

وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَوْلُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِافْتِخَارِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْكُفَّارِ ثُمَّ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي الْبَيْتِ سُكُونُ الْبَاءِ فِي الْمِصْرَاعَيْنِ، وَشَذَّ مَا قِيلَ مِنْ فَتْحِ الْبَاءِ الْأُولَى، وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَقَدْ غَفَلَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ: الرِّوَايَةُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِالْخَفْضِ، وَكَذَا قَوْلُهُ دَمِيَتْ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ حِرْصًا عَلَى أَنْ يُغَيِّرَ الرِّوَايَةَ لِيَسْتَغْنِيَ عَنِ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ انْتَهَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ مُجْمَلَ قِصَّةِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ وَادٍ وَرَاءَ عَرَفَةَ دُونَ الطَّائِفِ قِيلَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثُ لَيَالٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْآثَارِ، وَأَحْبَارُ الْأَخْيَارِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَتَمْهِيدِهَا وَأَسْلَمَ عَامَّةُ أَهْلِهَا اجْتَمَعَتْ أَشْرَافُ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ، وَقَصَدُوا حَرْبَ الْمُسْلِمِينَ فَسَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، عَشَرَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَلْفَانِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَهُمُ الطُّلَقَاءُ أَيْ: عَنِ الِاسْتِرْقَاقِ، وَخَرَجَ مَعَهُ ثَمَانُونَ مُشْرِكًا مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَوَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَجُلًا أُطْلِعَ عَلَى جَبَلٍ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ هَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعْنِهِمْ وَغَنَمِهِمُ اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «تِلْكَ غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» .

وَقَوْلُهُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهِمْ وَإِرِدَةِ جَمِيعِهِمْ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، حَتَّى كَانَ بَكْرَةُ أَبِيهِمْ أَيْضًا مَعَهُمْ، وَهِيَ مَا يُسْتَقَى عَلَيْهَا الْمَاءُ، وَالْمُرَادُ بِالظُّعُنِ: النِّسَاءُ، وَاحِدَتُهَا ظَعِينَةٌ ثُمَّ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ بَعْضُهُمْ أَوْ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَزَعْمُ أَنَّهُ الصِّدِّيقُ كَذِبٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، قُلْتُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ نَقْلِهِ، فَلَا مَحْذُورَ فِي قَوْلِهِ: «لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ» ، لِمَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: «لَنْ يُغْلَبَ اثْنَى عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ» إِذْ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْعَسْكَرِ يَقْدِرُ أَنْ يُقَاوِمَ أُلُوفًا كَثِيرَةً، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْغَلَبَةِ، فَهِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ كَثْرَةٍ، وَلَا مِنْ قِلَّةٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ نَوْعُ عُجْبٍ، وَتَوَهُّمُ غُرُورٍ مِمَّا قَدْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ التَّضَرُّعِ، وَالِابْتِهَالِ إِلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الْآيَةَ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَكِبَ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَلَبِسَ

دِرْعَيْنِ وَالْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ مَا لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ قَطُّ مِنَ السَّوَادِ، وَالْكَثْرَةِ، وَذَلِكَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ، وَخَرَجَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ مَضِيقِ الْوَادِي حَمْلَةً وَاحِدَةً فَانْكَشَفَتْ خَيْلُ بَنِي سُلَيْمٍ مُوَلِّيَةً، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَالنَّاسُ.

وَقِيلَ وَلَمْ يَثْبُتْ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّهِ الْحَارِثِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَأَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ أَكُفُّهَا مَخَافَةَ أَنْ تَصِلَ إِلَى الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي نَحْرِهِمْ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ وَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ الْعَبَّاسَ بِمُنَادَاةِ الْأَنْصَارِ، وَأَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَيْ: شَجَرَةِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَنَادَاهُمْ، وَكَانَ صَيِّتًا يُسْمَعُ صَوْتُهُ نَحْوَ ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ فَلَمَّا سَمِعُوهُ أَقْبَلُوا كَأَنَّهُمُ الْإِبِلُ حَنَّتْ عَلَى أَوْلَادِهَا يَقُولُونَ: يَا لَبَّيْكَ يَا لَبَّيْكَ، فَتَرَاجَعُوا حَتَّى أَنَّ مَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ بَعِيرُهُ نَزَلَ عَنْهُ وَرَجَعَ مَاشِيًا فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصْدُقُوا الْحَمْلَةَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَمَّا نَظَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى قِتَالِهِمْ قَالَ: الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ أَيْ: تَنُّورُ الْخُبْزِ ضَرَبَهُ مَثَلًا لِشِدَّةِ الْحَرْبِ الَّتِي يُشْبِهُ حَرُّهَا حَرَّهُ، وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَتَنَاوَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَصَيَاتٍ مِنَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ أَيْ: قَبُحَتْ ثُمَّ رَمَى فَامْتَلَأَتْ عَيْنَا كُلٍّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا وَلَّوْا نَزَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَرَسِهِ وَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ بِكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ فَحَدَّثَ أَبْنَاؤُهُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَبْقَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ تُرَابًا، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ كَإِمْرَارِ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّشْتِ الْجَدِيدِ بِالْجِيمِ. .

وَلِأَحْمَدَ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ سَرْجَ بَغْلَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ، فَقُلْتُ ارْتَفِعْ رَفَعَكَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ، فَضَرَبَ وَجُوهَهُمْ، وَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا، وَجَاءَ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْأَنْصَارُ بِسُيُوفِهِمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا الشُّهُبُ فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ الْأَدْبَارَ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رَجُلٍ كَانَ مِنْهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>