للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَهْلِ خُمُولَةٍ وَقِلَّةٍ، فَنَقَلَهَا إِلَى أَهْلِ ثَرْوَةٍ وَكَثْرَةٍ، فَإِنَّ أَهْلَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ أَكْبَرُ شَأْنًا مِنْ أَهْلِ الْغَنَمِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا يَعْتَدُّونَ، وَيَعْتَنُونَ بِأَصْحَابِهِمَا دُونَ أَصْحَابِ الْغَنَمِ ثُمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهَا (وَدَائِسٍ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الدَّوْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَدُوسُ كَنْسَ الْحَبِّ وَيَبْدُرُهُ مِنَ الْبَقَرِ، وَغَيْرِهِ لِيَخْرُجَ الْحَبُّ مِنَ السُّنْبُلِ (وَمُنَقٍّ) بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ النُّونِ، وَتَشْدِيدِ الْقَافِ كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، فَلَا يَغُرُّكَ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ رُوِّينَا بِضَمِّ الْمِيمِ، وَفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا مَعًا انْتَهَى.

فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ التَّنْقِيَةِ، فَهُوَ الَّذِي يُنَقِّي الْحَبَّ وَيُصْلِحُهُ، وَيُنَظِّفُهُ مِنَ التِّبْنِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ الدَّوْسِ بِغِرْبَالٍ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ فِي الْمَقَامِ لِاقْتِرَانِهِ بِالدَّائِسِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَنِي أَيْضًا فِي أَصْحَابِ زَرْعٍ شَرِيفٍ، وَأَرْبَابِ حَبٍّ نَظِيفٍ فَتَصِفُهُ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، وَتَعَدُّدِ نِعْمَهُ، وَحُسْنِ أَحْوَالِهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَقِيلَ يَجُوزُ كَسْرُ نُونِهِ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَرَدَّ بِأَنَّهُ مِنَ الْإِنْقَاقِ الْمَأْخُوذِ مِنَ النَّقِيقِ، وَهُوَ صَوْتُ الدَّجَاجِ وَالرُّخْمَةِ أَيْ: جَعَلَنِي فِي الطَّارِدِينَ لِلطُّيُورِ كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ زُرُوعِهِمِ، وَنِعَمِهِمْ، وَسُمِّيَ هَذَا مُنَقِّي ; لِأَنَّهُ إِذَا طَرَدَ الطَّيْرَ نَقَّ أَيْ: صَوَّتَ فَيَصِيرُ هُوَ أَعْنِي الطَّارِدَ ذَا نَقِيقٍ أَيْ: صَوْتٍ وَقِيلَ الْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْمُنَقِّ بِذَابِحِ الطَّيْرِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَبْحِهِ يَنُقُّ، فَيَصِيرُ هُوَ ذَا نَقِيقٍ أَيْ: جَعَلَنِي مِنْ أَهْلِ ذَابِحِي الطَّيْرِ، وَطَاعِمِي لُحُومِهَا، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ رَبَّاهَا بِلَحْمِ الطَّيْرِ الْوَحْشِيِّ وَهُوَ أَمْرَأُ وَأَطْيَبُ مِنْ لَحْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ زَادَتْ فِي مَدْحِهِ حَيْثُ قَالَتْ (فَعِنْدَهُ) أَيْ: مَعَ

هَذَا الْحَالِ (أَقُولُ) أَيْ: شَيْئًا مِنَ الْأَقْوَالِ (فَلَا أُقَبَّحُ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: فَلَا أُنْسَبُ إِلَيَ تَقْبِيحِ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَمُجْمَلُهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ عَلَى قَوْلِي لِكَرَامَتِي عَلَيْهِ، وَلَا يُقَبِّحُهُ لِقَبُولِ كَلَامِي، وَحُسْنِهِ لَدَيْهِ ; فَإِنَّهُ وَرَدَ: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيَصُمُّ» ، وَهَذَا أَبْلَغُ مِمَّا قِيلَ، الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ لِي: قَبَحَكِ اللَّهُ، بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ مِنَ الْقُبْحِ، وَهُوَ الْإِبْعَادُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُقَبِّحُوا الْوُجُوهَ» أَيْ: لَا تَقُولُوا قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَ فُلَانٍ، وَقِيلَ لَا تَنْسُبُوهُ إِلَى الْقُبْحِ ضِدِّ الْحُسْنِ (وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ) أَيْ: أَنَامُ إِلَى الصُّبْحِ لِأَنِّي مَكْفِيَّةٌ عِنْدَهُ بِمَنْ يَخْدِمُنِي، وَمَحْبُوبَةٌ إِلَيْهِ، وَمُعَظَّمَةٌ لَدَيْهِ، فَهُوَ يَرْفُقُ بِي، وَلَا يُوقِظُنِي لِخِدْمَتِهِ، وَمِهْنَتِهِ وَلَا يَذْهَبُ لِغَيْرِي مَعَ مُرُوءَتِهِ، وَكَمَالِ عِزَّتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كِنَايَةً عَنْ نِهَايَةِ أَمْنِهِ، وَغَايَةِ أُمْنِيَتِهِ (وَأَشْرَبُ فَأَتَقَمَّحُ) أَيْ: فَأُرْوَى وَأَدَعُهُ، وَأَرْفَعُ رَأْسِيَ، وَالْمَعْنَى لَا أَتَأَلَّمُ مِنْهُ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَرْقَدِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَذْكُرِ الْأَكْلَ إِمَّا اكْتِفَاءً أَوْ لِأَنَّ الشُّرْبَ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا أُرَاهَا قَالَتْ: هَذَا إِلَّا لِعِزَّةِ الْمَاءِ عِنْدَهُمْ، وَيُرْوَى بِقَافٍ وَنُونٍ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا، وَيَجُوزُ إِبْدَالُ نُونِهِ فِيمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ أَصَحُّ أَيْ: أُرْوَى حَتَّى أَدَعَ الشُّرْبَ مِنَ الرِّيِّ قِيلَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالنُّونِ أَقْطَعُ الشُّرْبَ وَأَتَمَهَّلُ فِيهِ، وَأَنْكَرَ الْخَطَّابِيُّ رِوَايَةَ النُّونِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ

بِكُلِّ مَكْنُونٍ (أُمُّ أَبِي زَرْعٍ) انْتَقَلَتْ مِنْ مَدْحِهِ إِلَى مَدْحِ أُمِّهِ مَعَ مَا جُبِلَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مِنْ كَرَاهَةِ أُمِّ الزَّوْجِ إِعْلَامًا بِأَنَّهَا غَايَةٌ فِي الْإِنْصَافِ وَالْخُلُقِ الْحَسَنِ (فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ) الرِّوَايَةُ هَهُنَا، وَفِيمَا بَعْدَهُ بِالْفَاءِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ قِيلَ تَعْجِيبٌ مِنْهَا، وَقَرَنَتْهُ بِالْفَاءِ إِشْعَارًا بِأَنَّهُ سَبَبٌ عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ وَالِدَةِ أَبِي زَرْعٍ (عُكُومُهَا) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتُفْتَحُ، جَمْعُ عِكْمٍ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْعِدْلِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَتَاعٌ أَيْ: أَوْعِيَةُ طَعَامِهَا (رَدَاحٌ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَرُوِيَ بِكَسْرِهِ أَيْ عِظَامٌ كَبِيرَةٌ وَوُصِفَ الْجَمْعُ بِالْمُفْرَدِ عَلَى إِرَادَةِ: كُلُّ عُكْمٍ مِنْهَا رَدَاحٌ، أَوْ عَلَى أَنَّ رَدَاحَ هُنَا مَصْدَرٌ كَالذَّهَابِ، وَقِيلَ لَمَّا كَانَتْ جَمَاعَةُ مَا لَا يَعْقِلُ فِي حُكْمِ الْمُؤَنَّثِ أَوْقَعَهَا صِفَةً لَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى وَلَوْ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَكَانَ الْوَجْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُكُومُ أُرِيدَ بِهَا الْحَفْنَةُ الَّتِي لَا تَزُولُ عَنْ مَكَانِهَا لِعِظَمِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تُرِيدَ كِفْلَهَا وَمُؤَخَّرَهَا، وَكَنَّتْ عَنْ ذَلِكَ بِالْعُكُومِ، وَامْرَأَةٌ رَدَاحٌ عَظِيمَةٌ الْأَكْفَالِ عِنْدَ الْحَرَكَةِ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>