للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِقْدَانُ الْمَرَارَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَهَيَجَانُ الْحُبِّ فِي حَشْوِ الْبَلَاءِ وَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْغِنَى، وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصِّحَّةِ، فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: مَنْ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَتَمَنَّ غَيْرَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ.

وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ لِبِشْرٍ الْحَافِي: الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ.

وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» فَقَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَاءُ.

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا، فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَالصَّبْرُ.

وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ لَا سِيَّمَا أَرْبَابُ الْقُلُوبِ مِنْ الْكَلَامِ فِي الرِّضَا، فَقِيلَ هُوَ ارْتِفَاعُ الْجَزَعِ فِي أَيِّ حُكْمٍ كَانَ. وَقِيلَ رَفْعُ الِاخْتِيَارِ، وَقِيلَ اسْتِقْبَالُ الْأَحْكَامِ بِالْفَرَحِ. وَقِيلَ سُكُونُ الْقَلْبِ تَحْتَ مَجَارِي الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ نَظَرُ الْقَلْبِ إلَى قَدِيمِ اخْتِيَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ. وَلِلْفَقِيرِ فِي الرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَّا شِعْرُ:

أَنَا فِي الْهَوَى عَبْدُ ... وَمَا لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَعَرَّضَا

مَالِي عَلَى مُرِّ الْقَضَا ... مِنْ حِيلَةٍ غَيْرِ الرِّضَا

[مَطْلَبٌ: خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ]

(تَنْبِيهٌ) : خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ فِي نَحْوِ مَا يُخَالِفُ بِهِ الطَّاعَةَ، وَيَكْتَسِبُ بِهِ الْإِثْمَ وَخُسْرَانَ الْبِضَاعَةِ، أَنَّا نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الرَّبِّ جَلَّ شَأْنُهُ، دُونَ الْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ، وَالْفِعْلَ غَيْرُ الْمَفْعُولِ، وَالْقَضَاءَ غَيْرُ الْمَقْضِيِّ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ وَاجِبٌ وَهُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ، فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ بِلَا حَرَجٍ وَلَا مُنَازَعَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ وَلَا اعْتِرَاضٍ. قَالَ تَعَالَى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: ٦٥]

<<  <  ج: ص:  >  >>