للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ، وَيَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ، وَيُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ؛ فَالتَّحْكِيمُ فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ، وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ، وَالتَّسْلِيمُ فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ. وَمَتَى خَالَطَ الْقَلْبُ بَشَاشَةَ الْإِيمَانِ، وَاكْتَحَلَتْ بَصِيرَتُهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ، وَحَيِيَ بِرُوحِ الْوَحْيِ وَتَمَهَّدَتْ طَبِيعَتُهُ، وَانْقَلَبَتْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ مُطْمَئِنَّةً رَاضِيَةً وَادِعَةً، وَتَلَقَّى أَحْكَامَ الرَّبِّ تَعَالَى بِصَدْرٍ وَاسِعٍ مُنْشَرِحٍ مُسْلِمٍ، فَقَدْ رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا بِهَذَا الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ الْمُوَافِقِ لِمَحَبَّةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَرِضَاهُ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْغِنَى وَالْعَافِيَةِ وَاللَّذَّةِ أَمْرٌ لَازِمُ لِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ، فَإِنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَبْدِ مَحْبُوبٌ لَهُ، فَلَيْسَ فِي الرِّضَا بِهِ عُبُودِيَّةٌ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالشُّكْرِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ وَوَضْعِ النِّعْمَةِ مَوَاضِعَهَا الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِيهَا، وَأَنْ لَا يَعْصِيَ الْمُنْعِمَ بِهَا.

وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ مِمَّا يُلَائِمُ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ، وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ، وَهَذَا كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْآلَامِ. وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الْجَارِي عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ كَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَرَامٌ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ وَلَا يُحِبُّهُ، فَكَيْفَ تَتَّفِقُ الْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا بِمَا يَسْخَطُهُ الْحَبِيبُ وَيَبْغُضُهُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَعَلَيْك بِهَذَا التَّفْصِيلِ فِي مَسْأَلَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَأَطَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.

مَطْلَبٌ: فِي الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ

وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الرِّضَا بِالْفَقْرِ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ وَاجِبٌ. وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّبْرَ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَأَرْقَى مِنْهُ الرِّضَا، وَأَرْقَى مِنْهُمَا الشُّكْرُ، بِأَنْ تَرَى نَفْسَ الْفَقْرِ مَثَلًا نِعْمَةً مِنْ اللَّهِ أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْك، وَأَنَّ لَهُ عَلَيْك شُكْرَهَا، وَلِهَذَا الْمَقَامِ أَشَارَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ (وَاشْكُرْهُ) أَنْتَ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْك مِنْ الْفَرَاغِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ بِشَهَادَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>