للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» . وَتَقَدَّمَ أَنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ هُوَ أَنْ لَا يَعْصِيَ اللَّهَ بِنِعَمِهِ.

وَالشُّكْرُ إمَّا عَلَى مَحْبُوبٍ، وَهَذَا - كَمَا قَالَ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ - شَارَكَتْ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَمِنْ سَعَةِ بِرِّ الْبَارِي أَنَّهُ عَدَّهُ شُكْرًا وَوَعَدَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَأَوْجَبَ لَهُ الْمَثُوبَةَ، وَأَمَّا فِي الْمَكَارِهِ، وَهَذَا مِمَّنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْحَالَاتُ إظْهَارًا لِلرِّضَا وَمِمَّنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَحْوَالِ كَظْمًا لِلشَّكْوَى وَرِعَايَةً لِلْأَدَبِ وَسُلُوكُ مَسْلَكِ الْعِلْمِ، وَهَذَا الشَّاكِرُ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى الْجَنَّةِ، وَأَمَّا مَنْ عَبَدَ اسْتَغْرَقَ فِي جَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُشْهِدُ إلَّا الْمُنْعِمَ، فَإِذَا شَهَّدَ الْمُنْعِمَ عُبُودَةً اسْتَعْظَمَ مِنْهُ النِّعْمَةَ، فَإِذَا شَهِدَهُ حُبًّا اسْتَحْلَى مِنْهُ الشِّدَّةَ، فَإِذَا شَهِدَهُ تَفْرِيدًا لَمْ يَشْهَدْ مِنْهُ شِدَّةً وَلَا نِعْمَةً. وَإِلَى مَقَامِ مُشَاهَدَتِهِ حُبًّا وَاسْتِحْلَاءَ الشِّدَّةِ مِنْهُ أَمَرَك النَّاظِمَ بِالشُّكْرِ عَلَى تِلْكَ الشِّدَّةِ؛ لِأَنَّهَا نِعْمَةٌ، فَإِنْ فَعَلْت (تُحْمَدْ) بِالْجَزْمِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَّةِ عَلَى شُكْرِك لَهُ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، وَالتَّحَدُّثَ بِالنِّعْمَةِ شُكْرٌ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ، وَبَابُ الشُّكْرِ وَاسِعٌ. وَلِلَّهِ عَلَى الْعِبَادِ نِعَمٌ لَوْ أَنْفَقُوا جَمِيعَ عُمُرِهِمْ فِي الطَّاعَةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ مَا أَدَّوْا شُكْرَ مِعْشَارِ عُشْرِهَا، فَسُبْحَانَ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى خَلْقِهِ بِنِعَمِهِ.

مَطْلَبٌ: الْعِزُّ فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِالْكَفَافِ

فَمَا الْعِزُّ إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا ... بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ

(فَمَا الْعِزُّ) وَالرِّفْعَةُ (إلَّا فِي الْقَنَاعَةِ) بِالْفَتْحِ مِنْ قَنِعَ كَتَعِبَ، الرِّضَا بِالْقَسْمِ، وَهُوَ قَنِعٌ وَقَنُوعٌ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ أَقْنَعَنِي، وَأَمَّا الْقُنُوعُ بِالضَّمِّ فَهُوَ السُّؤَالُ، وَالتَّذَلُّلُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الرِّضَا بِالْقَسْمِ مِنْ بَابِ الْأَضْدَادِ وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ. وَمِنْ دُعَائِهِمْ: نَسْأَلُ اللَّهَ الْقَنَاعَةَ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ الْقُنُوعِ. وَفِي الْمَثَلِ: " خَيْرُ الْغِنَى الْقَنُوعُ، وَشَرُّ الْفَقْرِ الْخُضُوعُ ".

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ

<<  <  ج: ص:  >  >>