للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وكان مع براعته في الفقه مُقَدَّمًا في عِلْم الفَلْسَفة وخاصةً في النُّجوم مُحِبًّا لأهلها.

ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع عبد الله المأمون ابن الرَّشيد تَمَّمَ ما بدأ به جَدَّهُ، فأقبل على طَلَبِ العِلْم في مواضِعِه واستخراجه من مَعَادِنه بقوةٍ نَفْسه الشَّرِيفة وعُلو هِمَّتِه المُنيفة، فداخَلَ مُلوكَ الرُّوم وسألَهُم وَصْلَة ما لدَيْهم من كُتُب الفلاسفة، فبَعَثُوا إليه منها بما حضرَهُم من كُتب أفلاطون وأرسطو وبُقْراطَ وجالينوس وإقليدس وبَطْلَمْيوس وغيرِهم، وأحْضَر لها مَهَرة المُترجمين فترجموا له على غاية ما أمكن ثم كَلَّفَ النّاسَ قِراءَتها ورغبهم في تعلمها، إذ المقصود من المَنْع هو إحكام قواعد الإسلام ورسوخ عقائد الأنام، وقد حصل وانْقَضَى على أنَّ أكثرها مما لا تَعَلُّق له بالديانات (١) فنَفَقَت سُوق (٢) العِلْم، وقامت دولةُ الحِكْمة في عَصْره، وكذلك سائر الفنون، فأتقن جماعةٌ من ذَوِي الفَهْم في أيامه كثيرًا من الفَلْسَفة، ومَهْدُوا أصول الأدب، وبَيَّنوا منهاج الطلب.

ثم أخذَ النَّاسُ يَزْهَدُون فِي العِلْمِ ويَشْتَغلُونَ عنه بتزاحُمِ الفِتَن تارةً وبجمع الشَّمْلِ أخرى إلى أن كادَ يَرْتَفع جُملةً وكَذا شأن سائرِ الصَّنائع والدُّول فإنَّها يَبْتدى (٣) قليلا قليلا ولا يزال يَزِيد حتى يَصِلَ إلى غاية هي منتهاه، ثم يعود إلى النقصان فيؤول أمرُهُ إلى الغَيْبَةِ فِي مَهاوِي النِّسْيان. والحق أنَّ أعظم الأسباب في رَوَاجِ العِلْم وكَسادِه هو رَغْبَةُ المُلوكِ في كلِّ عَصْر وعَدَم رَغْبتهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.


(١) قال المؤلف معلقًا في الحاشية: "قال العلّامة سعد الدين في "شرح المقاصد": لما كان من المباحث الحِكْمية ما لا يَقْدَح في العقائد الدينية ولم يناسب غير الكلام من العلوم الإسلامية خلطها المتأخرون بمسائل الكلام إفاضةً للحقائق وإفادةً لما عسى يُستعان به في التقصي عن المضايق. انتهى.
(٢) في م: "فنفقت له سوق"، و "له" لا أصل لها في نسخة المؤلف ولا لزوم لها.
(٣) يعني: يبتدئ شأنها.

<<  <  ج: ص:  >  >>