للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

واعلم أنَّ نتائج الأفكار لا تَقِف عندَ حَدٍّ وتصرُّفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية بل لكلِّ عالم ومُتعلّم منها حَظٌّ يحرزه في وقته المُقَدَّر له وليسَ لأحدٍ أن يُزاحمَهُ فيه لأنَّ العالمَ المَعْنَوي واسع كالبَحْر الزّاخِر، والفيض الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر، والعُلومُ مِنَحٌ إلهية، ومواهِبُ صَمَدانيةٌ، فغيرُ مُسْتَبْعد أن يُدَّخَرَ لبعض المتأخرين ما لم يُدَّخَر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: ما ترك الأول للآخر، بل القولُ الصَّحيحُ الظاهر: كم ترك الأوّل للآخر، فإنّما يستجيد الشيءَ ويَسْتَرْذله لجودَتِه ورَداءتِه في ذاته لا لقِدَمِهِ وحُدُوثِه. ويُقال: ليس بكلمة أضَرّ بالعِلْم من قولهم: ما ترك الأول شيئًا لأنه يقطعُ الآمال عن العِلْم ويحمل على التَّقاعُد عن التَّعلّم فيَقْتَصر الآخر على ما قدَّم الأوّل من الظواهر، وهو خَطرٌ عظيمٌ وقولٌ سقيمٌ، فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخِرُ فازوا بتفريع الأصول وتشييدها، كما قال ﵊: "أمّتي أمّة مُباركة لا يُدْرَى أَوّلَهُ خير أم آخِرُهُ" (١).

وقال ابن عبد ربه في "العقد" (٢): إني رأيتُ آخرَ كُلِّ طَبَقةٍ وواضعي كُلّ حكمة ومؤلفي كُلّ أدب أهذب لفظًا، وأسهل نقةً، وأحكم مذاهب، وأوضح طريقة من الأوّل، لأنّهُ ناقض مُتَعَقِّبٌ، والأول بادئ متقدم. انتهى.


(١) في م: "لا يُدرى أولها خير أم آخرها"، والمثبت من خط المؤلف، مع أن المحفوظ فيه ما جاء في م، وهو حديث تالف لا يصح أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ٢٦/ ٢٨٦ من رواية سيف بن عمر من طريق عبد الله بن أبي مليكة ومحمد بن عبد الرحمن بن فروخ، عن عمرو بن عثمان مرسلًا، وسيف بن عمر متروك.
(٢) العقد ١/ ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>