للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وخَرَجُوا إليها عن البَدَاوة فشَغَلَهُم الرياسة في الدولة العباسية، وما دفعوا إليه من القيام بالمُلْك عن القيام بالعِلْم مع ما يَلْحَقُهم من الأنفة عن انتحالِ العِلْم لكونه من جملة الصَّنائع، والرُّؤساءُ يَسْتَنكَفُون عن الصَّنائع.

وأمّا العلوم العَقْليةِ فلم تظهر في المِلّة إلا بعد أن تَمَيَّزَ حملةُ العِلْم ومؤلفُوه واستَقَرَّ العِلْمُ كُلُّه صناعة، فاختصت بالعَجَم وتَرَكها العَرَبُ فلم يحملها إلا المُعرَّبون من العجم.

المنظر الثالث: في أن العِلْم من جُملةِ الصَّنائع لكنَّهُ أَشرفُها.

واعْلَم أنَّ الحذاقةَ والتَّفَنُّنَ في العِلْم والاستيلاء عليه إِنَّما هو بحصول مَلَكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوُقوفِ على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله. وهذه الملكة هي غير الفهم والمَلَكاتُ كُلُّها جِسْمانيةٌ، والجسمانيات كُلُّها مَحْسُوسةٌ، فتفتقر إلى التعليم، فيكون صناعيًا، ولذلكَ كانَ السَّنَدُ فيه مُعْتَبَرًا وجميعُ (١) ما يُسَمُّونهُ عِلْمًا أو صناعةً فهو عبارةٌ عن مَلَكة نَفْسانية يَقْتَدِر بها صاحبها على النظر في الأحوال العارضة لموضوع ما من جهةٍ ما بحيثُ يُؤدّي إلى الغَرَض، فالعِلْمُ إِذَن ما اختصَّ بالجَنان واللسان، والصناعة إذن ما احتاجت إلى عَمَل بالبنان كالخياطة.

وقد قيل إنَّ المعلوماتِ الحاصلة لصاحب هذه المَلَكة لا تخلو إمّا أن تَحْصل على الاستقراء والتَّتَبُّع كالنَّحو وصنائع الفَصاحة والبَدِيعِ، أو تَحْصُل عن النَّظر والاستدلال كعلم الكلام، فالأوّلُ يُسَمَّى الصناعة، والثاني العِلم، لكنَّ الزَّمَخْشَري قد عَكَسَ في أول تفسيره فسَمَّى المعاني والبيان عِلْمًا


(١) في م: "والبيع"، وهو تحريف غريب.

<<  <  ج: ص:  >  >>