للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

لماذا يُعاقَب من وُلِد في أسرة كافرة ومات على الكفر

[السُّؤَالُ]

ـ[نؤمن كمسلمين بالقضاء والقدر، فإذا كان مكتوباً على الطفل أن يولد في أسرة كافرة، فلماذا يعاقب بدخول النار إذا كبر ومات على ذلك؟]ـ

[الْجَوَابُ]

أحكام الأضحية

الحمد لله:

نعم أخانا المكرم، نحن نؤمن بالقضاء والقدر، لكن قبل ذلك وبعده، نحن نؤمن بكمال الله تعالى وعدله، وتنزهه عن ظلم عباده، أدنى ما يكون ذلك الظلم، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس:٤٤) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة، بل فوق ذلك نعلم أن الله تعالى رفيق يحب الرفق في الأمر كله، رحمن، رحيم، ذو رحمة واسعة هي أوسع من غضبه وانتقامه، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) رواه البخاري (٧٥٥٤)

ومن أجل ذلك يحب أن يمهل عباده ويحلم عليهم، ويعذر إليهم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (.. لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ..) رواه البخاري (٧٤١٦)

فإذا استقر عندك هذا الأصل البيِّن المحكم المنير، الذي لا يصح لأحد إيمانه إلا بالتمكن فيه، فرُدّ إليه – رحمنا الله وإياك – كل غبش من ظلمةِ جهل، أو شبهة هوى، وسرعان ما تجد قلبك قد استراح، وقد علمت أن الله تعالى أرحم بك وبسائر عباده من الوالدة بولدها، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تحلّب ثَدْيهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا) رواه البخاري (٥٩٩٩) ومسلم (٢٧٥٤)

والله الرحمنُ الرحيم أرحم بهذا الذي تسألُ وتجادل عنه، منك ومن نفسه، فإما كان من أهل رحمة الله فستدركه إن شاء الله، لا محالة.

وإما كان من المحادين المعاندين فاشتغل بما ينفعك أنتَ وينجيك " ولا تكن للخائنين خصيماً "

وأحذر أن تغفل عن ذلك الأصل طرفة عين، ثم احذر أن تنظر في القدر قبل أن تُحكِمه، واعلم أن باب القدر كالشمس، متى آمنت به، وسلمت، على ما أتاك من خبر الله ووحيه، استرحت، واطمأنت نفسك، كالذي يسير في وضح النار.

وأما إذا دققت وشققت، وتعمقت وتنطعت، فما يستفيد المحدِّق في قرص الشمس سوى تلف عينيه؟!

فإذا جئنا إلى ما سألت عنه، حتى لا تظن أن ما قدمناه لك حيدةٌ عن الجواب، فاعلم مما يَجِبُ أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ لكل إنسان ما يمكنه من معرفة الخير والشر، قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) (البلد:٨) ، أي عينين يبصر بهما، (وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ) (البلد:٩) ، أي ولسانا ينطق به عما في ضميره وشَفَتَينِ يَسْتَعِين بهما على الكلام، (وهَدَيْنَاهُ النَّجدين) البلد/١٠، قال ابن مسعود: الخير والشر، وقوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الانسان:٢-٣) ، فقد بَيّن لله في الآيات السابقة أنه عز وجل وَهَبَ للإنسان الوسائل والآلات التي يُمْكِنُه معها معرفة طريق الخير والشر.

ثم إنه سبحانه لم يجعل هذه الآلات حجة على عباده بمفردها، بل فتح لهم باب العذر، وأملى لهم في الحجة، حتى يأتيهم نور الوحي من السماء، قال تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء/١٦٥، وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء/ ١٥

ومن أجل ذلك يوبخ الله تعالى الكفار به على ما أضاعوا من عذر الله وإمهاله، وغفلوا عن رسله وبيناته: (َيا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) (الأنعام ١٣٠-١٣١)

أما هذا الذي قَلّد أباه على الكفر، ومات عليه، فقد قال ابن القيم رحمه الله:

" َيُفَرّق بين مُقَلّدٍ تَمَكّن من العلم ومعرفة الحق، ومُقَلّد لم يتمكن من ذلك بِوَجْهٍ، والقسمان واقعان في الوجود فالمُتمَكِّن المُعْرِض، مفرطٌ تاركٌ للواجب عليه، لأنه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم، الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان أيضا:

أحدهما: مُرِيدٌ للهدى مُؤْثِر له، مُحِب له، غير قادر عليه، ولا على طلبه، لعدم من يُرْشِده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات ومن لم يبلغه الدعوة.

الثاني: معرض لا إِرَادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه، فالأول يقول: يا رب لو أعلم دينا خيرا مما أنا عليه لَدِنْتُ به وتركت ما أنا عليه، والثاني راضٍ بما هو عليه، لا يُؤْثِر غيره عليه، ولا تَطْلُب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز، فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يَظْفَر به، فعدل عنه بعد استفراغ الوسع في طلبه عَجْزاً وجهلاً، والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه " أهـ. طريق الهجرتين ٦٧٨.

وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض، فتأمل هذا الموضع، والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق، وأما كون إنسا معين قد قامت عليه الحجة أم لا، فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، وهذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم "

وهؤلاء الذين لم تبلغهم الدعوة، ولم تقم عليهم حجة الله بالرسل، أصح الأقوال فيهم أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، كما في مسند الإمام أحمد (١٨٥٦٦) وغيره من حديث الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا وَرَجُلٌ أَحْمَقُ وَرَجُلٌ هَرَمٌ وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ قَالَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا) وفي رواية: (فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا) رواه أحمد

والله الموفق

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>