للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

نسخ التلاوة في القرآن الكريم

[السُّؤَالُ]

ـ[أعرف أن آيات من القرآن قد نسخت بآيات أخرى، بعض الآيات نسخت نسخ تلاوة، كآية الرجم مثلا، أريد أن أعرف كم آية في القرآن نسخت نسخ تلاوة؟ قرأت حديثا ورد في صحيح مسلم، أن سورا كاملة نسخت نسخ تلاوة، كانت تلك السور طويلة، ربما في طول سورة التوبة. (رجاء النظر في صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن يكون له واديا آخر) . أريد أيضا أن أعرف هل تحدي الكفار في أن يأتوا بمثل القرآن متضمن للآيات المنسوخة؟ أسأل لأن الآية المذكورة في حديث صحيح مسلم لا تبدو لي كآية من القرآن إطلاقا!]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولا:

ذهب جماهير الأصوليين والفقهاء والمحدثين والمفسرين إلى جواز وقوع نسخ التلاوة والرسم مع بقاء الحكم الشرعي المتضمن في الآية ثابتا.

واستدلوا على ذلك بما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم من نصوص تدل على ذلك، ونحن نذكر هنا بعض ما وقفنا عليه من الأمثلة المنقولة:

١- نسخ تلاوة آية الرجم.

دليله قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو يخطب الناس على المنبر -:

(إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِى كِتَابِ اللَّهِ. فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. وَالرَّجْمُ فِى كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الاِعْتِرَافُ) رواه البخاري (٦٨٣٠) ومسلم (١٦٩١) .

يقول أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي رحمه الله:

" وقول عمر: (كان مما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الرَّجم، فقرأناها، ووعيناها، وعقلناها) ، هذا نصٌّ من عمر رضى الله عنه على أنَّ هذا كان قرآنًا يُتلى. وفي آخره ما يدلُّ على أنَّه نُسخً كَونُها من القرآن، وبقي حُكْمُها معمولاً به، وهو الرَّجم. وقال ذلك عمر بمحضرِ الصحابة رضى الله عنهم، وفي مَعْدن الوحي، وشاعت هذه الخطبة في المسلمين، وتناقلها الرُّكبان، ولم يسمع في الصحابة ولا فيمن بعدهم من أنكر شيئًا مِمَّا قاله عمر، ولا راجعه في حياته ولا بعد موته، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحة هذا النوع من النسخ، وهو نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ولا يلتفت لخلاف من تأخر زمانه، وقل علمه في ذلك، وقد بيَّنا في الأصول: أن النسخ على ثلاثة أضرب: نسخ التلاوة، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ التلاوة مع بقاء الحكم " انتهى.

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (٥/٨٥)

وانظر جواب السؤال رقم: (١١١٣٨٢) .

٢- نسخ تلاوة آية: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم) .

دليله قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه – في تكملة الحديث السابق -: (ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: " أَنْ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ ") رواه البخاري (٦٨٣٠) ومسلم (١٦٩١) .

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:

" قوله: (ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله) أي: مما نسخت تلاوته، قوله: (لا ترغبوا عن آبائكم) ، أي: لا تنتسبوا إلى غيرهم " انتهى.

"فتح الباري" (١٢/١٤٨) .

٣- نسخ تلاوة آية: (ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) .

دليله ما رواه قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه: (أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لِحْيَانَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ، فَأَمَدَّهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ، يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ، فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لِحْيَانَ.

قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: " أَلَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا "، ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ) انتهى.

رواه البخاري (٣٠٦٤) .

٤- نسخ تلاوة سورة طويلة، ذُكر أن مِن آياتها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا) .

دليله عن أبي الأسود رحمه الله قال: (بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ:

أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ، فَاتْلُوهُ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: " لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ "، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه مسلم (١٠٥٠) ، يقول الحافظ ابن حجر في معرض الحديث عن إحدى الروايات التي تذكر هذه الآية (لو كان لابن آدم ... ) : " وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية، والله أعلم، وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما، وإن كان حكمه مستمرا. ويؤيد هذا الاحتمال ما أخرج أبو عبيد في "فضائل القرآن" من حديث أبي موسى قال: " قرأت سورة نحو براءة فغبت وحفظت منها: ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا" الحديث، ومن حديث جابر: " كنا نقرأ لو أن لابن آدم ملء واد مالا لأحب إليه مثله " انتهى. "فتح الباري" (١١/٢٥٨) .

يقول أبو العباس القرطبي رحمه الله:

" قوله: (كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها) وهذا ضرب من النسخ، فإن النسخ على مانقله علماؤنا على ثلاثة أضرب: أحدها: نسخ الحكم وبقاء التلاوة. والثاني: عكسه، وهو نسخ التلاوة وبقاء الحكم. والثالث: نسخ الحكم والتلاوة، وهو كرفع هاتين السورتين اللتين ذكرهما أبو موسى، فإنهما رُفِعَ حُكْمَهُما وتلاوتُهما. وهذا النسخ هو الذي ذكر الله تعالى حيث قال: (مَا نَنْسخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) ، على قراءة من قرأها بضم النون، وكسر السين، وكذلك قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إلا ما شاء الله)

وهاتان السورتان مما شاء الله تعالى أن يُنْسِيَه بعد أن أنزله، وهذا لأن الله تعالى فعال لما يريد، قادر على ما يشاء؛ إذ كل ذلك ممكن.

ولا يتوهم متوهم من هذا وشبهه أن القرآن قد ضاع منه شيء، فإن ذلك باطل؛ بدليل قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزْلَنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، وبأن إجماع الصحابة ومن بعدهم انعقد على أن القرآن الذي تعبدنا بتلاوته وبأحكامه هو ما ثبت بين دفتي المصحف، من غير زيادة ولا نقصان، كما قررناه في أصول الفقه " انتهى.

"المفهم" (٣/٩٣-٩٤)

ويقول السيوطي رحمه الله:

" هذا من المنسوخ تلاوة الذي أشير إليه بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) ، فكان الله ينسيه الناس بعد أن حفظوه، ويمحوه من قلوبهم، وذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، إذ لا نسخ بعده " انتهى.

"الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" (٣/١٢٩)

٥- وأشياء آخرى متفرقة:

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:

" ثبت عن جماعة من الصحابة من ذكر أشياء نزلت من القرآن فنسخت تلاوتها وبقي حكمها أو لم يبق، مثل ... حديث أبي بن كعب: (كانت الأحزاب قدر البقرة) ، وحديث حذيفة: (ما يقرءون ربعها) يعني براءة، وكلها أحاديث صحيحة.

وقد أخرج ابن الضريس من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه " كان يكره أن يقول الرجل قرأت القرآن كله، ويقول: إن منه قرآنا قد رفع ".

وليس في شيء من ذلك ما يعارض حديث الباب؛ لأن جميع ذلك مما نسخت تلاوته في حياة النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى.

"فتح الباري" (٩/٦٥)

ثانيا:

يجب الإيمان بأن لله الحكمة البالغة في هذا الشأن، فهو سبحانه منزه عن العبث، وله في خلقه وأمره حكم عالية رفيعة، قد نعلمها، وقد لا نعلمها، ولكن العلماء يحاولون دائما تلمس الحكم وتأملها استجابة لأمر الله سبحانه بالتفكر والتدبر في آياته عز وجل.

يقول الزرقاني رحمه الله – في معرض الجواب عن الشبه التي يذكرها بعضهم في نسخ التلاوة دون الحكم -:

" يقولون: إن الآية دليل على الحكم، فلو نسخت دونه لأشعر نسخها بارتفاع الحكم، وفي ذلك ما فيه من التلبيس على المكلف والتوريط له في اعتقاد فاسد.

وندفع هذه الشبهة بان تلك اللوازم الباطلة، تحصل لو لم ينصب الشارع دليلا على نسخ التلاوة وعلى إبقاء الحكم، أما وقد نصب الدليل على نسخ التلاوة وحدها، وعلى إبقاء الحكم وتقرير استمراره، كما في رجم الزناة المحصنين، فلا تلبيس من الشارع على عبده ولا توريط.

يقولون: إن نسخ التلاوة مع بقاء الحكم عبث لا يليق بالشارع الحكيم؛ لأنه من التصرفات التي لا تعقل لها فائدة؟

وندفع هذه الشبهة بجوابين:

أحدهما: أن نسخ الآية مع بقاء الحكم ليس مجردا من الحكمة، ولا خاليا من الفائدة حتى يكون عبثا، بل فيه فائدة أي فائدة، وهي حصر القرآن في دائرة محدودة تيسر على الأمة حفظه واستظهاره، وتسهل على سواد الأمة التحقق فيه وعرفانه، وذلك سور محكم وسياج منيع يحمي القرآن من أيدي المتلاعبين فيه بالزيادة أو النقص؛ لأن اكلام إذا شاع وذاع وملأ البقاع ثم حاول أحد تحريفه سرعان ما يعرف، وشد ما يقابل بالإنكار، وبذلك يبقى الأصل سليما من التغيير والتبديل، مصداقا لقوله سبحانه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والخلاصة أن حكمة الله قضت أن تنزل بعض الآيات في أحكام شرعية عملية، حتى إذا اشتهرت تلك الأحكام نسخ سبحانه هذه الآيات في تلاوتها فقط، رجوعا بالقرآن إلى سيرته من الإجمال، وطردا لعادته في عرض فروع الأحكام من الإقلال، تيسيرا لحفظه، وضمانا لصونه، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

ثانيهما: أنه على فرض عدم علمنا بحكمة ولا فائدة في هذا النوع من النسخ، فإن عدم العلم بالشيء لا يصلح حجة على العلم بعدم ذلك الشيء، وإلا فمتى كان الجهل طريقا من طرق العلم، ثم إن الشأن في كل ما يصدر عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم أن يصدر لحكمة أو لفائدة نؤمن بها، وإن كنا لا نعلمها على التعيين، وكم في الإسلام من أمور تعبدية استأثر الله بعلم حكمتها، أو أطلع عليها بعض خاصته من المقربين منه، والمحبوبين لديه، وفوق كل ذي علم عليم، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.

ولا بدع في هذا، فرب البيت قد يأمر أطفاله بما لا يدركون فائدته لنقص عقولهم، على حين أنه في الواقع مفيد، وهم يأتمرون بأمره، وإن كانوا لا يدركون فائدته، والرئيس قد يأمر مرؤوسيه بما يعجزون عن إدراك سره وحكمته، على حين أن له في الواقع سرا وحكمة وهم ينفذون أمره، وإن كانوا لا يفهمون سره وحكمته.

كذلك شأن الله مع خلقه فيما خفي عليهم من أسرار تشريعه، وفيما لم يدركوا من فائدة نسخ التلاوة دون الحكم، ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم " انتهى.

"مناهل العرفان" (٢/١٥٦-١٥٨)

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>