للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وقفة مع قوله تعالى (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)

[السُّؤَالُ]

ـ[بعض أعداء الإسلام من الملحدين يحاولون النيل والطعن في هذا الدين وإثارة الشبه، فحاولوا تفسير الآية من سورة الإسراء المباركة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) (١٦) , وفق تفسيرات ونظرة مجردة توهم القارئ الغافل ويدّعون بأن الآية الكريمة تُظهر الله عز وجل وكأنه - تنزَّه الله عن ذلك - الإله الظالم المستبد , وأن إرادته للشر تفوق خيره وأنا وللأسف الشديد جدّاً , لست على دراية كاملة بقرآني , ولكن والله إني لما سمعت هذا الكلام: انتفض الدم في عروقي، أنا من نظري وعلمي المحدود أفادنا الله منكم - بأن هذه الآية المباركة وثيقة الصلة بما قبلها من آيات , وأنها مربوطة بحال بني إسرائيل، وظلمهم، وكفرهم البين , مع الإصرار على المعصية، وتجاهل العقاب الرباني العادل، فالله عز وجل لما رأى منهم الإصرار على المعصية مع سبق الإصرار والترصد في الذنب أراد أن يحكم عليهم بأن أدام المترفين في غيهم، فهم الفئة التي يلجأ إليها الناس دوما، وهم القدوة، لتكون حجة قاطعة من عنده سبحانه وتعالى. أفيدوني فوراً، أفادكم الله تعالى]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

هذه الآية فيها أقوال للعلماء مشهورة، وملخصها: أن الأمر فيها إما أن يكون أمراً شرعيّاً وهو موجه للمترفين، لكنه أمر بالطاعة، فأبوها، وإما أن يكون من الأمر الكوني لله تعالى، كما هو الحال في القضاء الكوني في قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً) الإسراء/ ٤، والقول الثالث: أنه " أمَرنا " بمعنى أكثرنا، وليس ثمة عاقل يقول إن الأمر في الآية هو الأمر الشرعي للمترفين بالفسق؛ يعني: أن الله شرع الفسق، وجعله دينا لهم، جل الله عما يقول الجاهلون، وتقدس وتنزه؛ كما قال تعالى عن نفسه (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) الأعراف/ ٢٨.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله -: قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) .

في معنى قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير:

الأول: وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله (أَمْرُنَا) هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى: (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به (فَفَسَقُواْ) أي: خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله.

(فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي: وجب عليها الوعيد (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) أي: أهلكناها إهلاكاً مستأصلاً، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.

وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة، كقوله: (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ... ) .

فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ) أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء.

ومن الآيات الدالة على هذا: قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) .

فقوله في هذه الآية (وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ... ) الآية: لفظ عام، في جميع المترفين، من جميع القرى، أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم: (إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) ، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم، والآيات بمثل ذلك كثيرة ...

وهذا القول الصحيح في الآية جارٍ على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم: " أمرتُه فعصاني "، أي: أمرته بالطاعة فعصى، وليس المعنى: أمرته بالعصيان، كما لا يخفى.

القول الثاني في الآية هو: أن الأمر في قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أمرٌ كوني قدري، أي: قدَّرنا عليهم ذلك، وسخرناهم له؛ لأن كلاًّ ميسرٌ لما خُلق له، والأمر الكوني القدري كقوله (وَمَا أَمْرُنَا إِلَاّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ) ، وقوله: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) ، وقوله (أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً) ، وقوله (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) .

القول الثالث في الآية: أن (أَمَرْنَا) بمعنى: أكْثرنا، أي: أكثرنا مترفيها، ففسقوا.

وقال أبو عبيدة: (أَمْرُنَا) بمعنى: أكثرنا، لغة فصيحة، كآمرنا، بالمد.

وقد علمتَ أن التحقيق الذي دل عليه القرآن: أنَّ معنى الآية: أمَرْنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمْرَنا، فوجب عليهم الوعيد، فأهلكناهم، كما تقدم إيضاحه.

تنبيه:

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال: إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا) مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع، المترفين وغيرهم، في قوله (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) يعني: القرية، ولم يستثن منها غير المترفين؟ .

والجواب من وجهين:

الأول: أن غير المترفين تبع لهم، وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم لأن غيرهم تبع لهم، كما قال تعالى: (وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ) ، وكقوله (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) ، وقوله: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا) ، وقوله تعالى: (وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ) ، وقوله: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ) إلى غير ذلك من الآيات.

الوجه الثاني: أن بعضهم إن عصى الله، وبغى، وطغى، ولم ينههم الآخرون: فإن الهلاك يعم الجميع، كما قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً) ، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: أنها لما سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقتربْ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه) وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث)

" أضواء البيان " (٣ / ٧٥ – ٧٩) باختصار.

وبه يتبين أنه لا يتعلق بتلك الآية لتشكيك الناس في أمر دينهم، أو الطعن في كتاب ربهم، إلا جاهل بلغة العرب، جاهل بكتاب الله، جاهل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>